نشأ شيخنا الجليل في أسرة علمية صالحة من أهل القرآن ولا شك أنَّ الشجر الطيب ينبت ثماراً طيبة بإذن الله. أما والده فكان من أهل القرآن وكان حافظاً مقرئاً للقرآن الكريم في بلدة مرصفا وتخرج على يده العلماء المراصفة في عصره، وكان والد شيخنا يقرأ من القراءات قراءة أبي عمرو البصري. أما شيخنا الجليل نوَّر الله مرقده فهو محقق في علم القراءات بلا منازع وعالم متبحر في علم الرسم والضبط، وكأنَّ الله خلقه لهذا العلم. كان أسمر اللون ذا لحية بيضاء طويلة، كان صاحب نكتة ودعابة، إذا جالسه أحد لا يمل من حديثه، كان يمازح ضيفه وتلميذه رغم مرضه الشديد، لين العريكة، حلو الحديث، بسَّاماً، كريماً في بيته لأهل القرآن، شديد الخوف من الله، لا تأخذه في الله لومة لائم. إذا جلس للإقراء كانت له هيبة، يعلوه الوقار والصمت، وإذا شرع في الحديث عن الروايات وطرقها كان بحراً دفاقاً، غيوراً على أهل القرآن والقراءات، وكان يرد على المخالفين للقراءات، كثير الترحم والتأدب مع العلماء السابقين، وكان يعجبني فيه حبه لمشايخه، وأدبه الرفيع معهم فكان لا يُذكر عالمٌ إلا ترحم عليه، كثير القراءة للقرآن، فكان رحمه الله يصلي كل يوم الوتر في بيته إحدى عشرة ركعة يقرأ فيهن جزأين من القرآن، وأما في شهر رمضان فكان يترك الإقراء ويعتكف على صلاته وتهجده فكان يصلي التراويح في بيته ويقرأ خمسة أجزاء في كل يوم، حقّاً هذه نعمة سبحان من وهبها لأهل القرآن. حفظ القرآن على الشيخ زكي محمد عفيفي نصر وأتم حفظ القرآن ولم يتجاوز العاشرة من عمره، ثم دخل المدرسة الأولية في ذلك الوقت سنة ١٩٣٤م التي تسمى بالإبتدائية، ثم تخرج من التعليم الأولي سنة ١٩٣٩م وكان ترتيبه الأول في المحافظة كما أفادني حسب شهادته التي عنده. أخذ التجويد عن الأستاذ رفاعي محمد أحمد المجولي، ثم قرأ بعدها ختمة كاملة لابن كثير على الشيخ رفاعي، ثم ختمة لحمزة من طريق الشاطبية وأجازه بهما، ثم التقى شيخنا نور الله ضريحه بالأستاذ المقرىء الشيخ حامد علي السيد الغندور فأخذ عليه القراءات الثلاث من طريق الدرة وقراءة حمزة ويعقوب ورواية حفص ورواية الأصبهاني عن ورش من طريق الطيبة وأجازه بذلك. ثم التقى شيخنا سنة ١٩٣٥م بالعلامة محمد حسن الأنور شريف فأخذ عليه القراءات الثلاث عن طريق الدرة، ثم قرأ عليه خَتمة للقراءات العشر من طريقي الشاطبية والدرة. ثم ارتحل إلى المقرىء الشيخ محمد جمعة الباز وقرأ عليه القراءات الثلاث من طريق الدرة. ثم في عام ١٩٥٣م التحق بالأزهر الشريف في قسم القراءات فحصل على إجازة التجويد وكان ترتيبه الأول في مصر. وبعد ثلاث سنوات حصل على الشهادة العالية في القراءات وكان ترتيبه الثالث، وواصل دراسته في قسم تخصص القراءات بكلية اللغة العربية حتى حصل على شهادة التخصص في القراءات وكان ترتيبه الثاني. درس في الأزهر علوماً عدة وفنوناً شتى درس الشاطبية والدرة والطيبة والعقيلة ومورد الظمآن في علم رسم القرآن ودرس ناظمة الزهر في علم الفواصل وغيرها كالبلاغية والصرف والفقه والتفسير. وفي أوائل سنة ١٩٦٢م سافر شيخنا إلى ليبيا مدرساً في جامعة الإمام محمد بن علي السنوسي الإسلامية وظل مدرساً فيها ستة عشر عاماً إلى سنة ١٩٧٧م. وفي هذه الآونة انتسب إلى الأزهر وحصل على الشهادة العالية الليسانس وتلقى عنه خلق كثيرون في ليبيا، أخذوا عنه التجويد والقراءات حتى إن شيخنا أفرد كتاباً خاصّاً لهم برواية قالون لأنهم يقرؤون بهذه الرواية. والتقى شيخنا رحمه الله سنة ١٩٧٢م بأعلى القراء إسناداً في هذا العصر المقرىء الكبير بالقاهرة شيخنا الشيخ أحمد عبد العزيز الزيات فسح الله في عمره وقرأ عليه ختمة بالقراءات العشر من طريق الطيبة وأجازه، وبعدها قرأ ختمة كاملة بالقراءات العشر من طريقي الشاطبية والدرة وأجازه. وفي عام ١٩٧٧م ودع ليبيا متوجهاً إلى المدينة المنورة على ساكنها أزكى الصلاة والسلام وعين معيداً في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سنة ١٣٩٧هـ وانتفع منه خلق وطلاب كثيرون في الجامعة وغيرها. وفي هذه الفترة أخرج شيخنا كتابه العجيب "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" فجاء الكتاب حلواً حاوياً لشتى المسائل في علم التجويد، وما إن بزغ نجم هذا الكتاب حتى تلقاه الناس بالاهتمام، وأقبلوا عليه ينهلون من رحيقه، وينتفعون بما فيه من أحكام التلاوة التي قل أن نجدها في غيره ويدرك ذلك من يطالع الكتاب. وتكريماً لجهوده في هذا الكتاب قررت إدارة مجلس الجامعة أن تكرم الشيخ فرفع الكتاب إلى المجلس الأعلى للجامعات ثم صدرت الموافقة في الأمر الملكي بتاريخ ٦/٢/١٤٠٦هـ بترقية الشيخ عبد الفتاح المرصفي إلى درجة أستاذ في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، وعين عضواً في اللجنة العلمية لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف للإشراف على المصحف الشريف طباعة وتسجيلاً بأصوات أشهر القراء في المملكة العربية السعودية. كان بيت الشيخ في المدينة المنورة حافلاً بالطلاب الذين يقرؤون عليه فكانوا يزدحمون على بيته رأيت ذلك بعيني، حتى كان بعضهم يقرأ عليه أثناء تناول الطعام. كان رحمه الله متضلعاً في العلم وكأنما ألين له العلم حتى استظهر متونه كلها حتى إن بعض المدرسين في الجامعة كانوا يأخذون عنه، ورغم مرضه الشديد كان يقرىء الطلاب ولا يمنع أحداً.
للشيخ مؤلفات كثيرة منها : ١- الطريق المأمون إلى أصول رواية قالون (مطبوع). ٢- هداية القاري إلى تجويد كلام الباري (مطبوع). ٣- شرح الدرة (مخطوط).
وأما الذين أخذوا عن الشيخ فأعداد كثيرة منهم : ١- الشيخ أحمد الزعبي الحسني أخذ عنه قراءة حفص من الشاطبية والدرة وأجازه بذلك كما قرأ عليه عقيلة أتراب القصائد في رسم المصاحف. ٢- الشيخ عبد الرحيم البرعي أخذ عنه القراءات العشر من طريق الشاطبية والدرة. ٣- الشيخ محمد تميم الزعبي أخذ عنه القراءات العشر عن طريق الطيبة وقرأ عليه عقيلة أتراب القصائد وناظمة الزهر. ٤- أحمد ميهان التهانوي الباكستاني أخذ القراءات الثلاث من طريق الدرة. ٥- الشيخ إدريس عاصم من لاهور باكستان أخذ عنه القراءات العشر من طريق الشاطبية والدرة. ٦- الشيخ محمد إبراهيم الباكستاني أخذ القراءات العشر من طريق الشاطبية والدرة. ٧- الشيخ عبد الرحيم محمد الحافظ العلمي من المدينة المنورة أخذ عنه رواية حفظ من الشاطبية وقرأ عليه القراءات السبع من طريق الشاطبية. ٨- الشيخ عبد الناصر يوسف سلطان من المدينة المنورة قرأ عليه رواية حفص عن عاصم من طريق المصباح وأجازه بذلك. ٩- الشيخ زايد الأذان من موريتانيا قرأ عليه القراءات السبع ووصل إلى سورة الأحزاب ولم يكمل حيث وافى الشيخ الأجل. ١٠- الشيخ يوسف شفيع قرأ عليه القراءات العشر الصغرى ووصل إلى سورة الأنبياء حيث توفي الشيخ. ١١- الشيخ خالد محمد الحافظ العلمي قرأ عليه ختمة برواية حفص عن عاصم من الشاطبية وأجازه بذلك. وهناك خلق كثيرون أخذوا عن الشيخ وفي يوم الأربعاء ١٧/٦/١٤٠٩هـ وبعد صلاة العصر كان يقرأ على الشيخ طالب من الإمارات المتحدة يدعى بلال فوصل إلى سورة الملك عند قوله تعالى : {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك : ١٢] وفجأة سكت قلب طالما خفق خاشعاً لربه، ووقف لسان طالما نطق ذاكراً ربه، وانتهت مسيرة شعلة كانت مضيئة، فانطفأت وتركت ظلالاً يافعة أسأل الله أن يبارك فيها. وفي يوم الخميس ١٨/٦/١٤٠٩هـ صلي على الشيخ في الحرم النبوي الشريف بعد صلاة الفجر وسارت الجنازة حيث استقبل البقيع مقرىء العصر ووري جثمانه بين قبر سيدنا عثمان وشهداء الحرة رحمهم الله تعالى. رحم الله شيخنا وأسكنه فسيح جناته ونور مرقده وجعل مع المقربين مقيله وسكناه. آمين. وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه آجمعين.
كتبه تلميذ الشيخ أحمد الزعبي الحسني وقد أخذ رؤوس الترجمة من إملاء الشيخ أثناء حياته
[الترجمة من مقدمة كتاب هداية القاري للمؤلف رحمه الله]