للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الكَفَّارَةُ (١) فالأَصْلُ فيها قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: ٩٢] وعن واثِلَةَ بن الأَسْقَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: أتينا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- في صَاحِبٍ لنا قد اسْتَوْجَبَ النَّارَ بالقَتْلِ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعْتِقُوا رَقَبَةً يَعْتِقِ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ" (٢).

واعلم أن مَسَائِلَ الباب في الكتاب يَرْتَبِطُ بعضها ببعض ارْتباطًا شَدِيدًا، لا يَحْسُنُ حَلُّ رَوابِطِها إلا بعد الوُقُوفِ على فِقْهِهَا.

والباب خَفِيفُ المُؤْنَةِ في نفسه، فَرَأَيْتُ أن آتى بمسائله جَمَّةً (٣) في فصل، وأَعُود إلى ما يَتَعَلَّقِ بِنَظْمِ الكتاب، وحلّه في فصل آخر.

أما الفصل الأول، فالكَلاَمُ على ما رتَّبَ في "الوسيط" في الواجب والمُوجِبِ. أما الواجب فَكَفَّارَةُ القَتْل مرتبة، فعليه إِعْتاقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فإن لم يجد فصيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ بالنص، فإن (٤) لم يَسْتطِعْ، فهل عليه إِطْعَامُ ستين مسكينًا؟ فيه قولان:

وقال القَفَّالُ في "شرح التلخيص": وجهان، وأنكر على صاحب "التلخيص" رِوايَةَ القولين:

أحدهما: أنه يَجِبُ؛ لأنها كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ على الإعْتاقِ، وعلى صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ، فأشبهت كَفَّارَةَ الظِّهَارِ والوِقاعِ في [نهار] (٥) رمضان.


(١) يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا ...} إلى أن قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
فبين سبحانه وتعالى أن القتل في ذاته جريمة منكرة ليس من شأن المؤمن أن يقوم عليها، ولا من طبعه الميل إليها، وأنه إن فعل ذلك إنما يفعله عن كُرْهٍ منه، وعلى غير قصد، وأنه في هذه الْحَالَةِ عليه أن يخرج رقبة من ذُلِّ العبودية تتمتع بنسيم الحرية، بدل تلك الرقبة التي فارقت الحياة الدنيا، فإن كان معسرًا عاجزًا عن تحرير تلك الرقبة، فعليه أن يصوم شهرين متتابعين تهذيبًا لنفسه، وإشعارًا لها بما وقع منها من التقصير؛ لعل الله يغفر لها ما فرط من ذنب إنه غفور رحيم. وهذه الآيات بظاهرها تفيد أن الكفَّارة إنما تجب في قتل الخطأ دون العمد إذ القاتل عمدًا جعل الله جزاءه جهنم خالدًا فيها، وغضب اللهُ عَلَيْه، وَلَعَنَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.
ومن هنا اتفقت كلمة الفقهاء على وجوب الكفَّارة في قتل الخطأ.
(٢) رواه أحمد وأبو داود والنسائيُّ وابن حبّان والحاكم من حديثه، ولفظهم: قد استوجب فقط، ولم يقولوا: النار بالقتل.
(٣) في ز: خمسة.
(٤) في ز: وإن.
(٥) سقط في ز.

<<  <  ج: ص:  >  >>