للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الباب الثالث والثمانون في ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها والزهد فيها

قال الله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى

«١» فوصف سبحانه وتعالى جميع الدنيا بأنها متاع قليل، وأنت أيها الانسان تعلم أنك ما أوتيت من القليل إلا قليلا ثم إن القليل إن تمتعت به فهو لعب ولهو لقوله تعالى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ

«٢» .

وقال تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ

«٣» . فلا تبع أيها العاقل حياة قليلة تفنى بحياة كثيرة تبقى، كما قال ابن عياض: لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، والآخرة خزفا يبقى. لوجب علينا أن نختار ما يبقى على ما يفنى، ثم تأمل بعقلك هل آتاك الله من الدنيا مثل ما أوتي سليمان عليه الصلاة والسلام حيث ملكه الله تعالى جميع الدنيا من إنس وجن وسخر له الريح والطير والوحوش، ثم زاده الله تعالى أحسن منها حيث قال:

هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ

«٤» . فوالله ما عدها نعمة مثل ما عددتموها ولا حسبها رفعة مثل ما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجا من حيث لا يعلم فقال: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ

«٥» . وهذا فصل الخطاب لمن تدبر. هذا قد قال لك ولجميع أهل الدنيا: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٩٢ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ٩٣

«٦» .

وقال تعالى: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ

«٧» .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أريك الدنيا بما فيها؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذارات وخرق بالية وعظام البهائم، فقال: يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم وهي اليوم صارت عظاما بلا جلد، ثم هي صائرة عظما رميما، وهذه العذارت ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبتموها في الدنيا فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياشهم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد. فمن كان باكيا على الدنيا فليبك قال:

فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا» «٨» .

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبه، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: تذكرت كسرى وقيصر. وما كانا فيه من سعة الدنيا، وأنت رسول الله، وقد أثر الشريط بجنبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدّنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة.

وروي عن الضحاك قال: لما أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض ووجدا ريح الدنيا وفقدا ريح الجنة غشي عليهما أربعين يوم من نتن الدنيا.

وعن ابن معاذ قال: الحكمة تهوي من السماء إلى القلوب فلا تسكن في قلب فيه أربع خصال: ركون إلى الدنيا «٩» ، وهم عدو وحسد أخ وحب شرف.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: «يا علي أربع خصال من الشقاء؛ جمود العين، وقسوة القلب، وبعد الأمل، وحب الدنيا» .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء العينين أنيابها بادية، مشوهة الخلق لا يراها أحد إلا هرب منها،

<<  <   >  >>