للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حكَي القاسمُ بن جِريالٍ، قالَ: نُبذتُ بأناملِ الدَّهْرِ الدالكِ، وسِهام السَّدرِ الطامس المَسالكِ، إلى هُوَّة هَمٍّ يَذْوِي لها الهُمامُ، ويَهوي لهوِّيتها الهَيْصمُ الهمَّامُ، بعدَ أنْ كنت أَعافُ مُعافسةَ الفَرير، وأَصطافُ في ظلالِ العَيْش القَريرِ، وأُغبَطُ بالأَسودينِ، ومنادمةِ الفرقدينِ، فلمّا هًدّ ضيقُ الباع، وقدَّ اَنقراضُ المَتاع، وحُرْمتُ لَذاذة الأَفياءِ، وعدِمْتُ مُرتفِع ضرْبِ الأشياءِ في الأشياءِ، رُشقْت بسَهْمَ راشهُ بنَانُ إملاقٍ، ورقَ القَدَرُ لما أنا من ضُروبهِ لاقٍ، وشَقَيْتُ لفُقدانِ مُرافقةِ فَواق وسُقيتُ من لبان الفِكر بأخلافٍ ما لها من فُواق، فلم أزل أهيمُ بالإهابِ الملوَّح، أسوةً بقيس بنِ الملّوح، حتَّى صارَ ذلك لأسدِ هِمّتي عيصاً، ولجسدِ عزمتي قَميصاً، فبينما أنا أسيَرُ بين السهول، وأروِّعُ أفئدة الغامرِ والمأهولِ، إذ حثَّني قطيعُ النَّصَبِ، إلى عين زاخرةِ الحبَبِ تُذرِي عَلى مَفارقِ الرَّقراق، طِيْبَ طُلاوةِ مائها المُهراقِ، فَمِلْتُ إلى بعض الوِهادِ، لآخذَِمنْ سكَرِ السنةِ سُهمانَ السَّوادِ، فلمَّا ندَّ اخضرارُ الظَلام، وامتدَّ لواءُ الإظلام، سمِعْتُ رُغاءَ إبل تُناخُ، قد ضمَّها ذلكَ المُناخُ، وحينَ خصَّ المنامُ من خَصَّ، وحص الوَسَنُ مِنْ قَوادم السهَر ما حصَّ، قَرَعَ مسمَعي آهةٌ تلينُ لها قلوبُ القُساةِ، وتُرَدُّ لمثلها عيونُ الأُساةِ، فجعلتُ تُنجِدُها زَفَراتي، وتُسعِدُها عَبراتي، فكانَ لما استمطرَ البصرُ غَمامهُ، وأطربَ أيكَ دَوح المسامع وثُمامه: الكامل:

سُحقاً لمَنْ جبذَ الزمانُ زِمامَهُ ... في لاحبِ الطَّمع المُذِلِّ لسَحْقهِ

ما يستفيقُ لحُمْقهِ مِنْ سُكْرهِ ... حتَّى تفاجئهُ جوارحُ مَحْقهِ

تاللهِ ما ترك التُّرابُ لتِرْبِهِ ... تِبْراً ولا حازَ التراثَ لحذْقه

كلاّ ولا نال التليدَ بصِدْقهِ ... يوماً ولا مَلَكَ الطّريفَ لصَدْقهِ

فالبس لرمح الحِرْص دِرْع زَهادةٍ ... يَنْدَقُّ إذْ دَقَّ الحسابُ بدَقّةِ

فالموتُ خَلْفكَ قَد يَسُنّ نِصالَه ... ليشُنَّ إنْ حانَ الفِراقُ برَشْقهِ

فعلامَ تفرَحُ بالحياةِ وجُلّها ... نَصَب يَصُوبُ بَصيَّبٍ من طَرقه

فاليومَ تبخلُ بالمكاسبِ مثلما ... بَخَلَ الغَمامُ علَى الجَديب بوَدْقه

وغداً يضيفُ الدودَ جسمُكَ بُرهةً ... تُمسى وتُصبحُ في محاسنِ خلقهِ

وتظلُّ من ظُلم المَظالم حائراً ... في أسْرِ رمْس لا تُسرُّ يعتْقهِ

<<  <   >  >>