للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نماذج من أصحاب الغربة الأولى والغربة الثانية وبيان الفرق بينهما]

إن القوة قوة القلب، فـ جعفر الطيار تقطع يده وفيها الراية، فيأخذ الراية باليد الأخرى، فتقطع يده الأخرى، فضمها بعضديه أي قوةٍ هذه؟! لا يشعر بهذا الألم ولا بذاك، ويضمها إليه؛ لأنها راية، والراية رمز، فلا يجوز أن تنكس!.

إن القوة قوة القلب، ليست قوة الجوارح، القلب هو ملك البدن، وهذه العضلة تستمد قوتها من القلب، فإذا ضعف القلب لم تنفع العضلة.

ولذلك ترى الرجل البدين القوي مفتول العضلات إذا سمع خبراً شديداً كالصاعقة يقع عليه تجده ينهار لماذا؟ خانته عضلاته؛ لأن عزم قلبه انفسخ، وهذه العضلة جندي مأمورٌ من القلب الذي هو ملك البدن.

الذي كان يميز الجيل الأول من الغرباء عن الأجيال التي جاءت بعد ذلك: قوة القلب، ووضوح الهدف، وصدق الانتماء.

جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع لفيف من الصحابة فيهم خباب بن الأرت، فقال عمر: والله ما أحدٌ أحق بهذا المجلس من بلال.

يعني: أولى رجل أن يكون أمير المؤمنين هو بلال بن رباح لماذا؟ لأنه أوذي في الله، فقال خباب: انظر يا أمير المؤمنين! وكشف خباب عن ظهره ففزع عمر لما رأى هذا المنظر، وقال: ما رأيتك اليوم.

قال: أوقدوا لي ناراً عظيمةً، والله ما أطفأها إلا ودك ظهري ومع ذلك لا يتحولون.

فلماذا أيها الغريب إذا تعرضت لأي بلاء، وخيِّرت بين الدين والدنيا، اخترت الدنيا وضحيت بدينك؟ إن سليمان عليه السلام لما استعرض الخيل، وكان يعدها للجهاد في سبيل الله كما قال الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص:٣٠ - ٣١]، الخيل الممتازة، فظل يتفقد الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فقال: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:٣٢] (توارت): يعني الشمس، بالحجاب: غربت، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:٣٣] هذه الخيول التي ألهته عن ذكر الله عز وجل، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:٣٣] عقرها جميعاً.

لماذا؟ قال: ((إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي)) [ص:٣٢] فالله سبحانه وتعالى زكاه، وقال في أول الكلام: ((نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)) [ص:٣٠].

إن العبد الذي يحقق معنى العبودية إذا حصلت مفاضلةٌ بين الله وبين غيره ينحاز إلى جنب الله، هذا هو العبد المزكى، الذي يقال فيه: ((نِعْمَ الْعَبْدُ)) [ص:٣٠].

لو قيل لأحدهم: إما أن تحلق لحيتك أو نفصلك من العمل.

فإنه سيقول: لا.

بل أحلق لحيتي، أليست هذه الصورة منتشرة؟ ويخدع نفسه فيقول -إذا كان مدرساً-: أنا لا أريد أن أترك التدريس، فالتدريس رسالة، ونستطيع أن ننشر الدعوة من خلاله.

أيها المتوهم: الحصة أربعون دقيقة، والمنهج يحتاج إلى الأربعين دقيقة كاملة، فلو كان المدرس ملتزماً ومتمسكاً بدينه، وأراد أن يظهر الشعار يبتدئ الحصة بقوله: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، نستفتح بالذي هو خير، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، فإنك لا تستطيع أن تقول هذا في الحصة؛ لأن في الطلبة جواسيس، ومن الطالبات جواسيس.

الذي يريد أن ينشر الدعوة حقاً ينظر في حاله؛ فإذا كان يسكن في عمارة مؤلفة من خمسة طوابق، في كل طابق شقتان نقول له: - كم عمرك؟ - يقول: اثنان وثلاثون سنة.

- ثلاثون عاماً ولم يلتزم أحد من سكان العمارة على يديك؟! لو كنت حقاً تحمل هم الدعوة حملاً حقيقياً؛ لبدأت تعمل في إطار العمارة؛ لأنهم يعرفونك ويعرفون ابن من أنت، فأنت ستعفي نفسك من تعريف نفسك للناس، بعض الناس لا يلقي بقلبه ولا بسمعه لبعض الدعاة، يقول لك: لا أسمعه، حتى أعرف أهو متطرف أم لا؟ أهو معتدل أم لا؟ فيظل يتردد سنة أو سنتين أو ثلاثاً إلى أن يحبه ويثق في معلوماته فيبدأ يعطيه قلبه.

لا.

أنت رجل تسكن في العمارة وهم يعرفونك، أين جهدك؟ إذا كنت صادقاً في دعوى عدم ترك التدريس لنشر دعوة الله، نقول: الدعوة مجالها واسع جداً، فلماذا تقول: لا، أنا أحلق لحيتي، وأظل مدرساً لمصلحة الدعوة؛ فإنه ليس من مصلحة الدعوة أن تكون من المخالفين لها، فإذا عرِّضت لهذه المفاضلة افعل كما فعل سليمان عليه السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:٣٢ - ٣٣]، لذلك زكاه الله عز وجل، ونعتُ العبدِ بالعبودية أشرف نعتٍ، وهو أن يقال له: أنت عبد، أو يقول الله عز وجل: {يَا عِبَادِيَ} [الزمر:٥٣]، {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:١٧]، ولو كان هناك وصفٌ أشرف من العبودية لوصفه الله للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به، قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:١]، فوصفه بهذا الشرف، فتحقيق العبودية يقتضي الانحياز إلى جنب الله عز وجل عند أي مفاضلة، لا تتردد في هذا الانحياز؛ فإن الله ناصرٌ من التجأ إليه، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.