للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحب والبغض في الله]

إن قصرت في قيام الليل، أو في صلاتك، أو لم يكن معك مال تتصدق به، أو عجزت أن تأمر بمعروف أو تنهى عن منكر، فأحب في الله عز وجل، تدرك منزلة رفيعة، ففي صحيح مسلم: (أن رجلاً ذهب ليزور أخاً له في قرية مجاورة، فأنزل الله عز وجل ملكاً في صورة رجل، فوقف على قارعة الطريق، فقال لهذا الرجل: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: إني ذاهب لأزور أخاً لي، فقال له الملك: أو ترى أن له عليك نعمة -يعني: له جميل عليك-؟ قال: لا.

غير أني أحبه في الله عز وجل، قال: فإن الله عز وجل يقول لك: إنه أحبك كما أحببته) إنه أحبك.

وإذا أحب الله عز وجل عبداً، أحبه كل أهل الأرض ووضع له القبول في الأرض، كما في الحديث الصحيح: (إن الله عز وجل إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلان بن فلان فأحبه).

تصور أنك إن ذكرك الله عز وجل في الملأ الأعلى، فقال: إني أحب فلان بن فلان، انظر إلى هذا الشرف السامق، وهذا لمجد الأثيل، أن الله تبارك وتعالى في علوه وكبريائه ومجده يذكر هذا العبد المستضعف الذي يمشي بقدمين على الأرض، ويقول: إني أحبه.

لو أن ملِكاً في هذه الأرض قال: إني أحبك -وأشار إلى عبد- لكاد أن يطير من الفرح، مع أن محبة هذا لا ترفع شيئاً ولا تضعه.

وهذه محبة الملك المتعال: (إني أحب فلان بن فلان) ألا ترغب أن تكون هذا العبد؟ إياك أن تستحقر نفسك، فإنك لا تدري منزلتك عند الله عز وجل: (إني أحب فلان بن فلان، فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء: إن الله يحب فلان بن فلان فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) وورد في بعض الآثار: إن العبد الصالح إذا مات بكت عليه الأرض، بكى عليه موضع سجوده، وبكى عليه موضع قدمه الذي كان يمشي به على الأرض؛ لأنه افتقد هذا الصالح، ثم إن هذا العبد إذا مات رُفع ورفعت روحه إلى السماء، وتفتح له أبوب السماء، من هذا؟ فلان، أي: الذي كانوا يحبونه وهو حي، فيستقبلونه ويدعون له، وقد طيب الله عز وجل ثراه وروحه حتى يُرفع إلى عليين.

إذاً: هذه الأخوة في الله عز وجل لها أجر عظيم جداً، فإياك أن تدنس هذه الأخوة بشيء من هذه الأرض، كأن تتقرب إلى إنسان لأجل ماله أو جاهه أو نفوذه، لا.

أحب لله عز وجل وأبغض فيه، فإن هذه الأخوة كانت من أعظم ما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كانوا يتجمعون في المسجد كأنهم روح واحد، ألم تسمع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول: (كنت أتناوب النزول أنا وأخ لي من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الأخ الذي عناه عمر هو: عتبان بن مالك وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عمر، وظلت هذه الأخوة يتوارث بعضهم بعضاً إلى بعد موقعة بدر مباشرة، فنزل قول الله عز وجل: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:٧٥]، فألغيت المواريث وبقيت المناصرة.

إن هذا المجتمع المفكك لا يمكن أن يعود وينتصر إلا إذا فعل الدعاة ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، فالذين يريدون أن يجاهدوا بأيديهم، كيف يجاهدون في هذا التفرق العظيم بين الناس؟! هل يمكن مثلاً أن نقول الآن: حيَّ على الجهاد وربع الأمة مثلاً لا يصلي أو ثلث الأمة لا يصلي أو نصف الأمة لا يصلي؟ هل تضمن إذا دارت رحى الحرب أن لا يطعنك في ظهرك؟ لا تضمن ذلك، لأن قلبه ليس عليك، يجب على الذين يريدون هذه المنزلة أن يبدءوا من حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذين يقولون: (نبدأ من حيث انتهى)، فهذه مقالة خطأ، وأقل ما يمكن أن توصف هذه المقالة أنها خطأ، يقول: (نبدأ من حيث انتهى)، وهل النبي صلى الله عليه وسلم يوم انتهى ترك شيئاً لغيره حتى يبدأ به؟! لقد أتم كل شيء ثم انظر إلى حالك الآن وأنت مستضعف لا تملك من أمر نفسك شيئاً، وانظر إلى إخوانك وقد تفرقوا شذر مذر، بحيث أنك لو قلت لأحد الناس: إن فلاناً يموت، إن فلاناً سقط بيته، إن فلاناً مريض، أعطونا شيئاً من المال على الأقل، فنصف الموجودين لا يُعطي شيئاً، أظن هذا إن قلت له: أعطني روحك فسيكون بها أبخل.

يجب أن نبدأ كما بدأ النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الأخوة يجب أن تعود، لقد رأيت بعض المسلمين -ولا أريد أن أقول: (كثيراً) مع أن الواقع يشهد أنهم كثير- إذا اختصم أحدهم مع الآخر في مسألة فرعية، ترك المسجد الذي يصلي فيه أخوه؛ بل لعله لا يقابله أبداً، ويتجنى بعضهم على بعض، وهم أسوأ ما يكونون في المعاملات المالية، ولقد رأيت بعض الناس قال للبعض الآخر: أليس معك مال نصنع شركة؟ قال له: نعم معي، وذهب الرجل إلى امرأته فقال لها: اخلعي الذهب، وهاتي كذا، وهاتي كذا، سوف نبيع كل هذا وننشئ شركة، وسنأخذ جزءاً من الأرباح كل شهر، وجاء الرجل بذهب المرأة، وجاء بالمتاع الذي كان ادخره يوماً ما، ووضعه في يد صاحبه، فأخذ هذا الإنسان المال، وكان عليه دين، فَسَدَّ دينه بمال أخيه، وكلما قال له أخوه: أين التجارة؟ قال له: أنا وصيت على البضاعة، ستأتي غداً، بعد غد، غداً، بعد غد حتى طال الأمل، ثم كشف هذا الآخر عن وجهه، قال له: حدثت لي ظروف، فأنفقت المال، وكاد الآخر أن يجن؛ لأن امرأته كادت أن تُطلق بسبب بيع الذهب، أهل المرأة أصروا على أن يأتي بالذهب، والرجل لا يملك شيئاً، والآخر يقول له: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠] وهذا الآخر أيضاً فقير مثلك، وكان أولى بماله منك، وما أعطاه المال حتى هدده، وما أعطاه ماله كاملاً؛ بل أعطاه مقسطاً، وضاع ذهب المرأة وضاع متاعه الذي ادخره، وراحت الأخوة من بين الاثنين.

أهذه أخوة؟! أهؤلاء يمكن يوماً أن تقوم بهم دولة؟! إن سنة الله تبارك وتعالى في الأرض لا تتخلف وهي سنة عادلة، يوم ينظر الله تبارك وتعالى إلى هذا القطيع فيرى قلوبهم تجمعت في بوتقة واحدة وفي مكان واحد، نكون أحق بنصر الله عز وجل، أما الآن فنحن لا نستحق هذا النصر، ولا نستحق أن يرفع عنا هذا الضيم، الذي وضعه الله عز وجل بعدله، ويجب على المسلمين أن يراجعوا هذه الأخوة، وأن ينظروا أين مكانهم من هذه الأرض، وهل يحبون في الله عز وجل أم يحبون لعرض زائل، إن هذه الدروس يجب أن نستفيد منها استفادة عملية.

فأرجو أن يراجع كل منا نفسه في باب الأخوة، هل يحب أخاه فعلاً في الله عز وجل أم لا؟ إن كان عنده مال مدخر وأخوه يحتاج إلى هذا المال؛ فليحمله إليه، جرب يا أخي ولا تقل: هذا المال أنا أدخره للطوارئ.

جرب أن تعطيه لأخيك، كما يقول بعض الدعاة: (جربوا الله مرة)؛ فإنك إن كنزت هذا المال، أتى الله عليك بجائحة أخذت هذا المال وربما تستدين عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة) فجرب وأحسن إلى أخيك وسترى وقع هذا الفعل في حياتك، فإن الله تبارك وتعالى بيده نواصي العباد.

وستعلمون أثر هذه الأخوة فيما بعد عندما تبدأ المجابهة ما بين هؤلاء المسلمين، وما بين القوى الثلاث اللائي كن يقطن في المدينة المنورة وهم أعداء الدولة المسلمة: الكفار، والمنافقون، واليهود.

هؤلاء الأعداء الثلاثة الذي وقفوا بالمرصاد لهذه الدعوة، فلا تستطيع هذه الدعوة مع قلة عددها وعتادها أن تنتصر عليهم إلا بهذه الأخوة.

أرأيتم في غزوة أحد لما جاء طلحة بن عبيد الله وقد أحاط المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم يريدون أن يصلوا إلى ما الله مانعهم منه، وهو أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يقتلوه، ترس عليه طلحة وأبو دجانة -ترس يعني: احتضنه وجعل ظهره للسهام- فأصيب طلحة في ظهره بسهام الكفار وهو لا يتحرك، حتى لا يصل سهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الأخوة والمحبة الصادقة.

إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.