للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من هديه صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس واللطف بهم]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وبعد: فترك الغدر فضيلة، وأفضل منه الوفاء بالعهد؛ لأن الوفاء بالعهد فيه ترك الغدر أيضاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدر، ويأمر أصحابه أن يتركوا الغدر كما في حديث بريدة رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً -يعني في غزة من الغزوات- يوصيه في خاصة نفسه بتقوى الله، ويقول: اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تقتلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا) كان كلما أمر أميراً يوصيه بترك الغدر؛ لأن ترك الغدر يخضع له القلب، وأنت رجل رأس في محل الأسوة، فقبيح جداً بالرأس أن يكون غداراً كذاباً.

وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند حسن من حديث عائشة رضي الله عنها: (أنه اشترى بعيراً من أعرابي بأوسق من تمر الذخيرة -أي: عجوة- وقال: يا أيها الأعرابي! إني مشترٍ منك هذا الجمل، ثم دخل البيت يبحث عن تمر فلم يجد، فخرج الأعرابي، وقال: يا أعرابي! إنني ظننت أن في البيت تمراً من تمر الذخيرة لكني لم أجد، فقال الأعرابي: وا غدراه! - (وا غدراه)! يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالغدر- فزجره الصحابة: ويلك! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليغدر -الرجل أيضاً لا زال يتكلم: وا غدراه! - والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إني ظننت أن عندي تمراً -يعني: إنما قال ذلك ظناً منه- قالت عائشة: فلما وجد -أي: النبي عليه الصلاة والسلام- الأعرابي لا يفقه ما يقول أرسل إلى خويلة بنت حكيم بن أمية إذا كان عندها تمر من تمر الذخيرة، فوجد عندها تمراً فأعطى الرجل، وأخذ منه البعير، فقال الأعرابي: جزاك الله خيراً، لقد وفي).

وفي هذا درس لكل رأس، وعلى وجه الخصوص الذين يوقعون في الأرض عن الله ورسوله: العلماء والدعاة هم أحوج الناس إلى هذه الوصية، تقول عائشة: (فلما رأى أن الرجل لا يفقه ما يقول سأل خويلة بنت حكيم) لابد من رحمة الناس، رجل لا يفقه لا تقل له: اضرب رأسك في الحائط، أنت حر، افعل ما بدا لك لا تقل هذا الكلام؛ لأن هذا يعود على دعوتك، فنحن نفتدي الدعوة بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا وأعراضنا، فالنبي عليه الصلاة والسلام رحم هذا الرجل؛ ووفى له؛ حتى لا يضل يقول: وا غدراه! وكل مجلس يقول: غدر بي.

إذاً لما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أراد أن يرحم الرجل من نفسه؛ لأنه لا يفقه.

والنبي عليه الصلاة والسلام أبعد الناس عن الغدر، وهذه كانت سيرته، بل كان سيد الأوفياء عليه الصلاة والسلام، فورث منه ذلك أصحابه، فلله در أبي بكر صديق الأمة كما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر قال: (لما جاء أبا بكر مال من العلاء بن الحضرمي قال: من كان له دين على النبي صلى الله عليه وسلم فليأتني) نتمنى أن تكون علاقة المسلمين ببعضهم بعضاً، كعلاقة النبي بـ أبي بكر وعلاقة أبي بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم (من كان له دين على النبي صلى الله عليه وسلم فليأتني، ومن كان له وعد - مجرد وعد من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ديناً- فليأتني.

قال جابر: فقلت له: إنه وعدني وحثا ثلاث حثيات في يدي.

فلم يسأله أبو بكر بينة -لأنه لو سأله بينة في هذا الموقف الراقي العالي لعكر الموضوع- فأعطاه أبو بكر خمسمائة وخمسمائة وخمسمائة).

لا ترم الناس بقلة الوفاء أيها الرامي، فلربما كنت تتقلب في ثياب الغدر، ولربما كنت أغدر الناس: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] والأيام دول.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم) الذي يقول: كل الناس غدارين، كل الناس كفار، كل الناس فسقة هو أفسق الناس، وهو أضل الناس؛ لأنه لا يعلم أقدار الخلق، من الذي جعله حاكماً بهذا في الشمول والعموم على خلق الله؟!! أتخذ عند الله عهداً، أم أطلعه الله على الغيب؟!! هذا نوع من الافتراء وعدم معرفة قدر النفس، لهذا عوقب بأنه أهلك الناس: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم).

وقد ثبت في الصحيحين (أن موسى عليه السلام وقف في بني إسرائيل مذكراً فوعظ موعظة ذرفت منها العيون، ورقت لها القلوب، فلما قضى موعظته انطلق فانطلق خلفه رجل، فقال: يا رسول الله! هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال له: لا) مع أنه أحال الحكم إلى موسى، يقول له: هل تعلم أنت في حدود علمك أن هناك من هو أعلم منك؟ قال: لا.

ولو سئل المرء عن معرفته فقال: لا.

فقد وقف عند ما علم، وقد أفلح من وقف عند ما علم، لكنها من نبي الله كبيرة؛ إذ أنه موصول بالسماء، ولا يتكلم إلا بأمر ربه، فعاتبه الله عز وجل لأنه لم يرد العلم إليه؛ فقال: (بلى.

إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.

قال: أي رب! كيف لي به؟) ثم قص النبي صلى الله عليه وسلم علينا قصة موسى والخضر.

فالرجل الذي يقول: هلك الناس، أو فسق الناس، أو كفر الناس، أو الناس كلهم مبتدعة، فقد جاء حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم).

الوفاء بعقد النكاح من شيم النبلاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال في آخر وصاياه: (استوصوا بالنساء خيراً -وفي اللفظ الآخر: اتقوا الله في النساء- فإنكم أخذتموهن بكلمة الله).

انظر إلى موسى عليه السلام: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص:٢٨] رجل يعرض ابنته، وبعض ضعاف العقول والقلوب يتصور أن الرجل لو عرض ابنته أنه يرميها، أو أن البنت رخيصة، فلذلك نقول لهذا العارض: انتقي من تعرض عليه، إن اللئام في الدنيا كثير، فأول ما يعرض ابنته يتصور هذا الزوج أن الوالد رماها، أو لعله يعيره بهذا العرض مع أنه لا يعير به، لكن صالح مدين انتقى واختار رجل يفر من فرعون، وعليه علامات الصلاح والتقوى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:٢٧].

إذاً: أنت عندما تذهب لتخطب امرأة من أبيها إنما أخذتها بكلمة الله، أي: أن الرجل عندما يخطب البنت ويقول له: يا عم، وأنا تحت أمرك! ولما يتزوجها لا يقول هذا لماذا؟ هل أنت عندما أخذت المرأة من أبيها كان من ضمن ما ظهر منك أنك تسب وتجزع أو أنك تعاشرها بالمعروف؟! هذا لون من ألوان الغدر والخيانة.

ولون من ألوان الغدر أيضاً: أن يأمل فيك الناس فلا يرونك حيث أملوا فيك، كأن يتمنى مثلاً والد العروس يتمنى أن هذا الولد يكون مثل ابنه مثلاً، فإذا بزوج البنت يخذله، وكلما وقع الرجل في ورطة لا يجد زوج البنت بجانبه، مع أنه لما تقدم للبنت أظهر أنه صاحب مروءة، هذا لون من ألوان الغدر، ينبغي على الإنسان العاقل اللبيب أن يترفع عنه.

وقد كان من السلف إذا أمل الناس فيه أملاً فلم يجدوه عندهم يبكون، كـ سفيان بن عيينة رحمه الله: جاءه سائل يسأل فلم يجد عنده، فلما انطلق السائل بكى سفيان، فقيل له: ما يبكيك وأنت ما قصرت؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل فلا يجد أمله! يرى أن هذه مصيبة.

هنا درس في الوفاء لنتعلمه من بيت إبراهيم عليه السلام: إبراهيم عليه السلام مدحه الله تعالى في آيات كثيرة، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:١٢٠]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:١٢٥]، وقال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:١٢٤]، وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:٣٧] كل هذه أوصاف إبراهيم عليه السلام، ولا أعلم أن الله تبارك وتعالى جعل الأسوة مفعولة إلا فيه وفي نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لشمول فعله، أي: إبراهيم عليه السلام نحن نعلم شيئاً عن أسرته وحياته، ونبينا عليه الصلاة والسلام نعلم كل شيء عنه، فلا تتم الأسوة إلا إذا كانت جوانب حياة المتأسى به مضيئة، بحيث يتأسى به الناس على اختلاف مشاربهم، فلا يتأسى به في العقيدة مثلاً أو في الجهاد أو في الصبر فقط؛ بل في شتى مجالات الحياة.

ونحن لا نعلم هذا إلا لنبينا عليه الصلاة والسلام، ففي أي جانب من جوانب الحياة، مثلاً في المزاح: فالنبي عليه الصلاة والسلام سن لنا سنناً، بل قد علمنا كيف نقضي حاجتنا.