للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مناقشة أدلة العلماء في زكاة الحلي]

نستطيع أن نعتبر المسألة طرفين؛ طرف يقول بالوجوب، وطرف يقول بعدم الوجوب، فالذين يقولون بالوجوب -بصرف النظر عن مسميات الأئمة: أدل وأوضح دليلٍ في المسألة حديث المرأة مع ابنتها، فسألوا الآخرين: لماذا لم تقولوا بوجوب الزكاة مع أن هذا الحديث صريح (أتؤدين.

أيسرك) ؟ قالوا: هذا ليس فيه دليل، إذاً بماذا تجيبون عليه؟ فنحن هنا الآن نبدأ بهذا الدليل، وهو صريح صحيح لا لبس فيه، فسألنا الذين قالوا: لا زكاة في الحلي، ما تقولون في هذا الحديث؟ قالوا: كما نقل البيهقي رحمه الله: كان مجيء المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلامه معها عندما كان الذهب محرماً بالكلية.

وقالوا: فعلاً قد كان الذهب في بادئ الأمر محرماً على الرجال والنساء، حتى صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر في المدينة، وأخذ الذهب والحرير وقال: (هذان حرامٌ على رجال أمتي، حلالٌ لنسائها) .

أقول وباستحياء: عندما كنتُ أدرس هذه المسألة في سبل السلام في الرياض بكلية الشريعة كان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يكتب على هذه الآية في أضواء البيان، وجاءته الملازم من مصر لتصحيح الخطأ فيها، وكان من عادته رحمه الله إذا تغدينا وجلسنا لشرب الشاي أن يأخذ يصحح في الملازم، ولتلهفي أو تطلعي إلى مبحثٍ في هذه المسألة أخذت الملازم وقرأت، فذكر جوابهم على ذلك، فلما قرأتها أردت أن أسأله.

والشيخ الله يغفر له كان يفتح لي صدره قليلاً، وأنا كنت طويل اللسان قليلاً، فقلت: يا شيخ! هذه المسألة يحوك في صدري شيء منها لا أستطيع أن أعبر عنه، قال: ما هو؟ قلت: أتساءل لاستيضاح جواب هؤلاء: بأن ذلك كان وقت تحريم الذهب مطلقاً.

أترى يا شيخ! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى استعمال المحرم، ويترك الإنكار عليه ويذهب يسأل عن الزكاة، أم أن المتبادر أن ينكر على استعمال المحرم أولاً، ثم يأتي إلى موضوع الزكاة؟ فقال: أعد عليَّ مقالتك، فأعدتها عليه.

فقال: أتدري أن ما قلتَه صحيح، ولكنني رأيت فلاناً وفلاناً وفلاناً وسلسل القول إلى البيهقي، فسرت معهم، ولئن أحياني الله -وهذه أمانة ألقيها- إلى إعادة الطبع لأصححن ذلك، أما الآن فإن الكتاب قد طبع، وهذا لوضع الصواب وتصحيح الخطأ فلا يمكن تصحيح عدة آلاف قد طبعت، وهذه أمانة ألقيها للجميع.

إذاً: استدلالهم أو ردهم الحديث بأن ذلك كان حين حرم الذهب أو كان الذهب محرماً للاستعمال مطلقاً فيه نظر.

نأتي إلى حديث فتخات عائشة وأوضاح أم سلمة، ماذا يقال فيها؟ قالوا: هذا لا يستقيم، لماذا؟ قالوا: الفتخات هي خواتم، وليس معقولاً أنها ستلبس خواتم قدر مائتي درهم، فهذا ضعيف وأوضاح أم سلمة كذلك، ليس معقولاً أن تلبس أوضاحاً قدر عشرين مثقالاً.

لكن أجاب عن ذلك ابن مسعود رضي الله عنه: بأن تلك الفتخات، أو هذه الخواتيم أو الأوضاح تضم إلى جنسها فيكمل به النصاب، فإذا كان عندها من الأوضاح ذهب وفضة وكل منهما ناقص النصاب فإنه يضم بعضه إلى بعض ويزكى.

إذاً: هي ليست زكاةً في عينها الموجودة بالفعل، ولكن في جنسها وهو الحلي المستعمل.

وهناك أثرٌ عن عائشة يغاير ذلك -ساقه مالك في الموطأ- أنها كانت تلي أيتاماً ولهم حلي فلم تؤد زكاته.

وعن عبد الله بن عمر أيضاً في الموطأ أنه كان يحلي بناته وجواريه ولم يخرج الزكاة عن حليهن، ويذكر ابن عبد البر -ولأول مرة أقرؤها-: كان ابن عمر يزوج بناته بأربعة آلاف دينار، ولم يخرج الزكاة، ويحليهن بها، أي: بهذا المبلغ ولم يؤدِ زكاته.

ونأتي إلى الرواية الأخرى عن ابن عمر أنه ممن يقول بزكاة الحلي، فأجابوا عن ذلك: بأن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تلي أيتاماً، فلعلها كانت تترك زكاة أموال اليتيم حتى يبلغ، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولكن الرواية الأخرى في قضية الفتخات فيها: (أتؤدين زكاته؟) ، فيكون ورد عن عائشة روايتان: رواية في الفتخات، ورواية في الأيتام، فأي الروايتين أصرح في القضية؟ الجواب: رواية فتخات يدها، فبعضهم يرجح تلك الرواية وبعضهم يرجح هذه.

نأتي أيضاً إلى قول جابر رضي الله تعالى عنه: (ليس في الحلي زكاة) وهذا أخذ به مالك، ولكن المذكور عن جابر رضي الله تعالى عنه في كتاب الأموال: أن جابراً سُئل عن حلية السيف بالذهب؟ الحلية، (ال) هنا هل هي للعهد فيكون المراد حلية السيف، أم (ال) للجنس فيكون المراد مطلق حلية على صفةٍ عامة؟ ونجد البيهقي في أثر جابر هذا يقول: إنه منقطع أو إنه معضل، فمن احتج به كان داخلاً فيمن يغرر بدينه، فلا يصح.