للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شرح حديث: (من لم يدع قول الزور ... )

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري وأبو داود واللفظ له] .

ما مناسبة مجيء قول: (من لم يدع قول الزور) بعد النهي عن الوصال؟ لماذا ما أتى به في الأول حتى نحتاط لصيامنا؟ ولماذا جعله في الأخير؟ لماذا أتى به بعد حديث النهي عن الوصال؟ ما السر في هذا؟ أم هو مجرد رص؟ في الحديث السابق، قالوا: إنك تواصل، قال: لست كأحدكم، لكنهم ما اكتفوا بهذا، وطمعوا ورغبوا أن يحصلوا الفضل، وما دام أنهم لا يستطيعون أن يواصلوا وهو يواصل فقالوا: دعنا نواصل، فأرشدهم ألا يواصلوا، ولا يكلفوا على أنفسهم، قالوا: لا، قال: (أنتم لستم مثلي) أي: أنا عندي استطاعة ليست لديكم.

قالوا: لا.

فواصل بهم يوماً، واليوم إذا أطلق يشمل الليل والنهار، ثم يوماً، فصارت ثمانية وأربعين ساعة، فرءوا الهلال، يعني: ربنا رحمهم، لما رءوا هلال شوال انتهى الصيام، ولم يعد هناك وصال، فقال لهم: (لو لم نر الهلال لواصلت بكم يوماً آخر) ، كان يقول لهم: لا تواصلوا، والآن يقول: أريد أن أواصل بكم، هذا الأسلوب ماذا نسميه؟ هذا تشديد أو تخفيف؟ تشديد، والتشديد من ورائه التنكيل، الراوي يقول: ينكل، أي: يشدد عليهم ويعزرهم حتى لا يعيدوا الكرة مرة أخرى، كما أنك تنهى إنساناً عن شيء مصلحةً له، ولكنه يتطلع ولا ينتهي، تقول له: تعال، -مثلاً-: تقول له: أنا ذاهب إلى قباء ماشياً.

فقال: أمشي معك.

قلت له: أنت لا تستطيع، أنا أقوى على المشي أما أنت لا تقوى.

قال: لا، بل أقوى.

فقلت له: هيا نمشي، وفي نصف الطريق قعد وأخذ يفرك رجليه.

ماذا بك؟ قال: يكفي.

قال: لا، لابد أن تواصل، لابد أن تمشي.

قال: أنت قلت من قبل: لا تمشِ أنت لست تقوى، والآن تقول: لا، لابد أن تمشي!! لماذا؟ حتى لا يعود إلى هذا الإلحاح، كالمنكل بهم، والتنكيل: التعذيب، كأنه يحمل عليهم نتيجة لتشددهم وعدم قبولهم الرخصة في أول الأمر، ولم يقبلوا اللين فكأنه قال: تعالوا، تحملوا.

ومن هذه الجزئية قال الشافعي: لو كان الوصال حراماً ما واصل بهم اليوم واليومين؛ لأنه لا يجوز التنكيل بمحرم.

وإلى هنا عرفنا أنه مكروه، وأنه جائز لمن يستطيع.

إذاً: لا ينبغي لإنسان أن تأتيه الرخصة في الإسلام ويرفضها، وهو في حاجة إليها، زيادة ورغبة في الخير، قبولك الرخصة رغبة في الخير، إلا إذا لم يكن هناك أية مشقة، وكان أمراً عادياً، وكان اتباعاً للأصل على ما سيأتي في الصوم والفطر في السفر إن شاء الله.

إذاً: واصل بهم اليوم واليومين على غير ما كان يريد، كان لا يريد أن يواصل بهم، لكن فعل ذلك تأديباً، كما يقال: قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقسُ أحياناً على من يرحم لم جاء المؤلف بحديث: (من لم يدع) بعد حديث النهي عن الوصال، وجعلهما مقترنين؟ فما العلاقة بينهما؟ التأليف فن وحكمة، وأشرنا إلى ما قال ابن عبد البر في إيراد مالك لنصوص رؤية الهلال، حيث قدم حديث ابن عمر: (فاقدروا له) ، ثم جاء بحديث ابن عباس: (فاقدروا له ثلاثين) ، وقال: حديث ابن عمر مجمل، وحديث ابن عباس يفسره، فأخر المفسر ليكون بياناً للمطلوب، يعني: أن العلماء حينما يوردون الأدلة في الأبواب يكون إيرادهم إياها عن حكمة وعن دلالة خاصة، وليست مجرد رصف أحاديث ونصوص، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كنا تساءلنا ما هي العلاقة بين مجيء هذا الحديث وبين النهي عن الوصال؟ وكما قال الأخ: لما نهاهم عن الوصال وهم يرغبون في الوصال زيادة في الخير، فكأنه يقول لهم: إذا كنتم تريدون الخير بزيادة فليس في نوعية زيادة العمل، ولكن في إحسانه وفي جودته، وهو أن تحافظوا على صوم النهار من الفجر إلى الليل، وأن تصوموا عما لا يليق بالصائم.