للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المفاضلة بين الأنساك الثلاثة]

وقد اختلف العلماء في أي الأنساك أفضل، فقال بعضهم: بأنه لا يصح إلا التمتع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المهلين بالحج أن يقلبوها إلى عمرة، وقال: (لو استقبلت) فعلى كل من يستقبل الحج أن يأتي متمتعاً، وهذا فيه تطرف، وقال الآخرون: الأنساك لا زالت قائمة بأنواعها الثلاثة ولكن الأفضل موضع نظر، كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في محادثة لما سئل عن الأفضل؟ قال: الأفضلية أمر هين، ولكن ترسيخ وتثبيت الأنساك الثلاثة هو الأهم.

فإذا جئنا إلى أقوال العلماء فيما هو الأفضل، نجد هناك من يقول: الأفضل هو الذي بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ بالحج مفرداً، ونجد من يقول: الأفضل ما انتهى به نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى نسكه بالقران، ونجد آخر يقول: الأفضل ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو التمتع.

أردت بهذا أن أبسط القضية لنرى مواقف الأئمة الأجلاء من النصوص الواردة، ومن فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، لنرى على أي شيء يبني الأئمة مذاهبهم، فمن قال: الإفراد أفضل، لم يأت به من عنده، ولكن أخذ بابتداء حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه الأنساك الثلاثة، ولا يختار لنفسه إلا الأفضل، وقال بهذا مالك والشافعي، ونجد الآخرين يقولون: الختام هو المهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم اختار لنفسه الإفراد، والله سبحانه وتعالى اختار لرسوله صلى الله عليه وسلم القران، فالذي اختاره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أولى من الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، أجاب على ذلك أصحاب الإفراد وقالوا: إن مجيء جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره إليه: (قل: عمرة في حجة) هذا تعليم جديد، وأمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه المفردين أن يجعلوها عمرة، هو أمر جديد، يقضي على أمر قديم، وليس لعينِ النسك في ذاته، فهو: لعلة وقصد، وليس لأفضلية القران أو التمتع، نقول: ما هي العلة التي عندكم؟ قالوا: يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام، لا يرون العمرة في أشهر الحج) حتى يتساءل أحد الصحابة قائلاً: أيذهب أحدنا إلى منى وكذا؟ قال: (فقدموا صبح رابعة) يعني: قدم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه -كما قالت عائشة: (خرجنا مع رسول الله) - اليوم الرابع من ذي الحجة في الصباح، واليوم الرابع من ذي الحجة من أيام الحج، فأمرهم بالتحلل من العمرة، وكانوا في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وكانوا يأتون بصفر بدل المحرم، وهو النسيء، فيقدمون صفر؛ لأنه يحل فيه القتال، ويؤخرون المحرم؛ لأنه يحرم فيه القتال، لئلا يجتمع عليهم ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فتطول عليهم المدة؛ فأخروا المحرم وقدموا صفر، وكانوا يقولون: (إذا انسلخ صفر، وبرأ الدبر، وعفا الأثر، حلت العمرة لمن اعتمر) بمعنى: إذا خرج زمن الحج (وبرأ الدبر) والدبر: هو الجرح في ظهر البعير، من الرحل من طول المشوار، وهذا يحتاج إلى مدة يرتاح فيها (وعفا الأثر) والأثر هو: وطء الأقدام في السفر، وهذا لا يعفى أثره مع كثرة الرواحل إلا بعد مدة تعميها الرياح وتغطيها، فكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، قالوا: فلذلك أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة.

قول الراوي: (كانوا يرون فأمر) يتفق علماء اللغة بأن الفاء هنا سببية، أي: بسبب ما كانوا يعتقدون، وبسبب ما كانوا يقولون، أمرهم؛ ليقضي على هذا القول وهذا الاعتقاد، ثم قال: (دخلت العمرة في الحج هكذا: وشبك بين أصابعه) وقوله: (دخلت العمرة في الحج) أفي القران؟ أم دخلت العمرة في أشهر الحج في الزمان؟ الاحتمالان واردان، وعلى هذا يقول الذين قالوا بالإفراد: إن قران رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الطريق بأمر جبريل؛ ليدل على جواز العمرة في أشهر الحج، على خلاف ما كانوا يعتقدون، وأمره صلى الله عليه وسلم بالتحلل وجعلها عمرة للعالم كله وليُعلن ذلك للجميع، وأصحاب القران يقولون: هذه لا تكفي، لأنه اعتمر صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قبل الحج: عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، وكلها كانت في أشهر الحج، وهذا يكفي لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، وقال الآخرون: بل هذا لا يكفي؛ لأنها وقعت في حوادث متفرقة وعند جماعات محدودة، ولو كان ذلك بياناً كافياً لما توانى الناس، ولما تساءلوا وقالوا: أيذهب أحدنا إلى منى وهو كذا؛ إذاً: لم يكن عندهم بيان كافٍ يزيح ما كانوا قد اعتادوه من قبل؛ فلذلك تعين البيان في هذا الجمع، وكان قاضياً على ذلك الاعتقاد.

إذاً: القران والأمر بالتحلل إنما كان لتشريع جديد يقضي على الماضي، وقالوا أيضاً: الخلفاء الراشدون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، وباشروا بأيديهم، ماذا فعلوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل جاءوا متمتعين، كما تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو جاءوا قارنين كما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو جاءوا مفردين كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وباتفاق الأمة فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه في خلافته حج مرتين مفرداً، وعمر في خلافته -عشر سنوات- حج مفرداً، زيادة على ذلك وجدنا عثمان رضي الله تعالى عنه -وهو ثالث الخلفاء الراشدين- في أثناء الطريق ينهى عن التمتع، وقد جاء في رواية أن رجلاً جاء إلى علي رضي الله عنه وهو يعلف بقرات له فقال: (أما رأيت ما يقول عثمان؟ قال: وما ذاك؟ قال: ينهى عن التمتع، يعني: التمتع بالعمرة إلى الحج، فذهب علي -يقول الراوي: لا أنسى أثر العجين على يده- فدخل على عثمان وقال: أتنهى عن التمتع! وقد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أردت أن يفرد الناس الحج بسفر مستقل) أي: لا أريد معتمرين يمكثون في مكة بعد العمرة، ومنها يحرمون للحج، فقال: (وجدنا عمر قبل عثمان ينهى عن القران، قيل: يا عمر! كيف تنهى وتعلم أننا حججنا مقرنين الحج والعمرة؟! قال: أردت أن يكثر الوافدون على البيت) يعني: ما يريد أن يجعلهم يرمون عصفورين بحجر، لا، ولكن يأتي إلى العمرة بسفر ويرجع، ثم يأتي إلى الحج بسفرة أخرى.

إذاً: وجدنا بداية إهلاله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً، ثم قران وكان لأمر يقتضيه البيان، ثم وجدنا الخليفتين عمر وعثمان ينهيان: أحدهما عن القران، والآخر عن التمتع، فما هو الذي بقي عندنا؟