للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طلب المباعدة بينه وبين الخطايا]

قوله: (أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) .

هذا الدعاء يسأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل وهو لا خطيئة له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:٢] ، وجاء التنبيه على لفظ (اللهم) : بزيادة الميم في الأخير بدل ياء النداء، أي: (يا الله باعد) فيحذف ياء النداء ويأتي بالميم في الأخير: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) ، وهذه المباعدة لتلك الخطايا في الماضي أم للمستقبل؟ إن كانت عن الماضي فهي بمعنى: اغفر لي وارحمني واصفح عني، ولا تجعل بيني وبينها اختلاط ولا اجتماع بأن تغفرها لي: فإذا كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فماذا يباعد؟ قالوا: هذا تعليم لنا، وهي زيادة رفع له في درجاته صلى الله عليه وسلم، كما لو فرضنا أن إنساناً يستغفر الله بكثرة وليس عنده ذنوب؛ فيكون استغفاره رفعه له في درجاته، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، سبحان الله! الرسول يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة! والتوبة لا تكون إلا من ذنب، قالوا: ربما أن بعض التقصير يعتبره صلى الله عليه وسلم ذنباً، ولذا فإنه يتوب منه، كما ثبت في دعاء الخروج من بيت الخلاء: (غفرانك) ، غفرانك من ماذا؟ لأنه لما دخل بيت الخلاء امتنع من ذكر الله، فلما خرج اعتبر فترة وجوده في بيت الخلاء المانع من ذكر الله خطيئة، فقال: غفرانك ربي عن هذا الوقت الذي ذهب من غير ذكرك! ولكن هذا شيء.

والتحقيق: أنه تعليم للأمة، كما تقدم في الخطاب الذي يوجه إليه صلى الله عليه وسلم، وليس هو المقصود به أبداً، كما في قوله سبحانه وتعالى في حق الوالدين: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:٢٣] ، لمن يقول؟ أبوه قد توفي وهو في بطن أمه، وأمه توفيت وعمره سبع سنوات، من سيبلغ عنده الكبر من والديه؟ ليس هناك أحد منهما، فيكون هذا قطعاً المراد به الأمة، فقد خوطبوا في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاًَ: هنا كذلك: (باعد بيني وبين خطاياي) ، والحال ليس هناك خطايا، يقول: (أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، والحال ليس هناك ذنوب يتوب منها؛ إنما يكون تعليماً لنا، ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم.

وهنا المباعدة إن كان المراد بها خطايا متقدمة يكون المراد غفرانها وسترها ومحوها، لأن المشرق والمغرب لا يلتقيان أبداً، فكذلك هو والخطايا لا يلتقيان، وإن كان للمستقبل فالمراد بها: باعد بيني وبين أسباب ارتكاب الخطايا؛ حتى لا أخطئ كما باعدت بين المشرق والمغرب، فلا أجتمع أنا وخطيئة أبداً كما لا يجتمع المشرق والمغرب أبداً.