للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَوَارِضُ لَا تَقْدَحُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ التَّاجِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْأَسِيرِ فِيهَا، وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقِفُونَ عَلَى حَالِ الْغُزَاةِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَلَا يَعْرِفُونَ لِلْأَمَانِ مَصْلَحَةً، وَلِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ فِي حَقِّ الْغُزَاةِ؛ لِكَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ، وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْوَاحِدِ؛ لِقَوْلِهِ : «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَالَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يَقِفُ عَلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ، فَيَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ وَسَوَاءٌ أَمَّنَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً، أَوْ أَهْلَ مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ.

وَأَمَّا حُكْمُ الْأَمَانِ، فَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَّنْتُ فَثَبَتَ الْأَمْنُ لَهُمْ عَنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِغْنَام، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ رِجَالِهِمْ، وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، حَتَّى لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي النَّقْضِ يَنْقُضُ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ، كَانَ لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا صَارَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي النَّقْضِ نَقَضَ.

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْأَمَانُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إمَّا أَنْ كَانَ الْأَمَانُ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَانْتِقَاضُهُ يَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: نَقْضُ الْإِمَامِ، فَإِذَا نَقَضَ الْإِمَامُ انْتَقَضَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِالنَّقْضِ، ثُمَّ يُقَاتِلَهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْهُمْ غَدْرٌ فِي الْعَهْدِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَجِيءَ أَهْلُ الْحِصْنِ بِالْأَمَانِ فَيَنْقُضَ، وَإِذَا جَاءُوا الْإِمَامَ بِالْأَمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا فَإِلَى الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ احْتِرَازًا عَنْ الْغَدْرِ، فَإِنْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ وَالْجِزْيَةَ، وَأَبَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِمَأْمَنِهِمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُؤَجِّلُهُمْ عَلَى مَا يَرَى فَإِنْ رَجَعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ فِي الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ، وَإِلَّا صَارُوا ذِمَّةً لَا يُمَكَّنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُمْ بَعْدَ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ الْتِزَامُ الذِّمَّةِ دَلَالَةً، وَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّقْضِ، وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ إلَّا إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَمَضَى الْوَقْتُ، وَهُوَ فِيهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

هَذَا إذَا حَاصَرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْكَفَرَةِ، فَجَاءُوا فَاسْتَأْمَنُوهُمْ، فَأَمَّا إذَا اسْتَنْزَلُوهُمْ عَنْ الْحُكْمِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ.

(إمَّا) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ، وَإِمَّا أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ، بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ فَإِنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ جَازَ إنْزَالُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.

وَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَإِنْ شَاءَ سَبَى الْكُلَّ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمْ ذِمَّةَ مُقَاتَلَتِهِمْ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا جُعِلُوا ذِمَّةً وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي وَصَايَا الْأُمَرَاءِ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ: «وَإِذَا حَاصَرْتُمْ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا، فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ﷿ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ» نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ الْإِنْزَالِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَكَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْإِمَامِ قَضَاءً بِالْمَجْهُولِ، وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ.

وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَيُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا سَبِيلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ أَبَوْا لَا يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ وَلَا يَسْتَرِقُّهُمْ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُمْ ذِمَّةً، فَإِنْ طَلَبُوا مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يُبْلِغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ لَمْ يُجِبْهُمْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ لَصَارُوا حَرْبًا لَنَا.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِنْزَالَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ﷿ هُوَ الِاسْتِنْزَالُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ وَالْقَتْلُ وَالسَّبْيُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ كُلُّ ذَلِكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ، فَجَازَ الْإِنْزَالُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي الْمُنْزَلَ عَلَيْهِ، أَيُّ حُكْمٍ هُوَ؟ .

قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَهَذَا لَا يَكْفِي لِجَوَازِ الْإِنْزَالِ عَلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَّارَاتِ: إنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُقُوعَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُفْرِ الْمُكَلَّفُ، كَذَا هَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ إنْزَالٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - حَقِيقَةً، إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ مِنْ نَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - ﴿وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٢٦] وَقَالَ ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ﴾ [يوسف: ٤٠] وَلَكِنَّهُ يُظْهِرُ حُكْمَ اللَّهِ ﷿ الْمَشْرُوعَ فِي الْحَادِثَةِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ «لَقَدْ حَكَمْتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>