للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إلى الغزّالىّ سرّا؛ لإنافته عليه فى سرعة العبارة، وقوة الطبع، ولا يطيب له تصدّيه للتصانيف، وإن كان متخرّجا به، منتسبا إليه، كمالا يخفى من طبع البشر، ولكنه يظهر التبجّج به، والاعتداد بمكانه، ظاهرا خلاف ما يضمره.

ثم بقى كذلك إلى انقضاء أيام الإمام، فخرج من نيسابور، وصار إلى العسكر، واحتلّ من مجلس نظام الملك محلّ القبول، وأقبل عليه الصاحب لعلوّ درجته، وظهور اسمه، وحسن مناظرته وجرى عبارته.

وكانت تلك الحضرة محطّ رحال العلماء، ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقعت للغزّالىّ اتفاقات حسنة من الاحتكاك بالأئمة، وملاقاة الحصوم اللّدّ، ومناظرة الفحول، ومنافرة الكبار.

وظهر اسمه فى الآفاق، وارتفق بذلك أكمل الارتفاق، حتى أدّت الحال به إلى أن رسم للمصير إلى بغداد، للقيام بتدريس المدرسة الميمونة النّظاميّة بها، فصار إليها، وأعجب الكلّ بتدريسه، ومناظرته، وما لقى مثل نفسه، وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق.

ثم نظر فى علم الأصول، وكان قد أحكمها، فصنّف فيه تصانيف.

وجدّد المذهب فى الفقه، فصنّف فيه تصانيف. وسبك الخلاف، فحرّر فيه أيضا تصانيف.

وعلت حشمته ودرجته فى بغداد، حتى كانت تغلب حشمة الأكابر، والأمراء، ودار الخلافة.

فانقلب الأمر من وجه آخر، وظهر عليه بعد مطالعة العلوم الدقيقة، وممارسة الكتب المصنّفة فيها، وسلك طريق التزهّد والتألّه، وترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة، والاشتغال بأسباب التقوى، وزاد الآخرة.

فخرج عما كان فيه، وقصد بيت الله، وحجّ. ثم دخل الشام وأقام فى تلك الديار قريبا من عشر سنين، يطوف، ويزور الشاهد المعظّمة.

وأخذ فى التّصانيف المشهورة، التى لم يسبق إليها، مثل: إحياء علوم الدين والكتب المختصرة منها، مثل الأربعين وغيرها من الرسائل، التى من تأمّلها علم محلّ الرجل من فنون العلم.

وأخذ فى مجاهدة النفس، وتغيير الأخلاق، وتحسين الشمائل، وتهذيب المعاش، فانقلب شيطان الرّعونة، وطلب الرياسة والجاه، والتخلق بالأخلاق الذميمة، إلى سكون النفس، وكرم الأخلاق، والفراغ عن الرّسوم والتّرتيبات، والتّزيّى يزىّ الصالحين، وقصر الأمل، ووقف الأوقات على هداية الخلق، ودعائهم إلى ما يعنيهم من أمر الآخرة، وتبغيض الدنيا، والاشتغال

<<  <  ج: ص:  >  >>