للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بها على السالكين، والاستعداد للرّحيل إلى الدار الباقية، والانقياد لكل من يتوسّم فيه أو يشمّ منه رائحة المعرفة، أو التيقّظ لشئ من أنوار المشاهدة، حتى مرن على ذلك، ولان.

ثم عاد إلى وطنه لازما بيته، مشتغلا بالتفكّر، ملازما للوقت، مقصودا، نفيسا وذخرا للقلوب، ولكل من يقصده، ويدخل عليه.

إلى أن أتى على ذلك مدّة، وظهرت التصانيف وفشت الكتب، ولم تبد فى أيامه مناقضة، لما كان فيه، ولا اعتراض لأحد على ما آثره، حتى انتهت نوبة الوزارة إلى الأجلّ، فخر الملك، جمال الشهداء، تغمّده الله برحمته، وتزيّنت خرسان بحشمته، ودولته، وقد سمع وتحقّق بمكان الغزّالىّ، ودرجته، وكمال فضله، وحالته، وصفاء عقيدته، ونقاء سيرته، فتبرّك به، وحضره، وسمع كلامه، فاستدعى منه أن لا يبقى أنفاسه وفوائده عقيمة، لا استفادة منها، ولا اقتباس من أنوارها، وألحّ عليه كلّ الإلحاح، وتشدّد فى الاقتراح، إلى أن أجاب إلى الخروج، وحمل إلى نيسابور.

وكان اللّيث غائبا عن عرينه، والأمر خافيا، فى مستور قضاء الله ومكنومه، فأشير عليه وبالتّدريس فى المدرسة الميمونة النّظاميّة، عمّرها الله، قلم يجد بدّا من الإذعان للولاة، ونوى بإظهار ما اشتغل به هداية الشّداة، وإفادة القاصدين، دون الرجوع إلى ما نخلع عنه، وتحرّر عن رقّه من طلب الجاه، ومماراة الأقران، ومكابرة المعاندين، وكم قرع عصاه بالخلاف، والوقوع فيه، والطعن فيما يذره ويأتيه. والسّعاية به، والتشنيع عليه، فما تأثّر به، ولا اشتغل بجواب الطاعنين، ولا أظهر استيحاشا بغميزة المخلّطين.

ولقد زرته مرارا، وما كنت أحدس فى نفسى [مع] ما عهدته فى سالف الزمان عليه، من الزّعارّة، وإيحاش النّاس، والنظر إليهم بعين الازدراء، والاستخفاف بهم كبرا وخيلاء، واغترارا، بما رزق من البسطة فى النطق، والخاطر، والعبارة وطلب الجاه، [والعلوّ] فى المنزلة أنه صار على الضّدّ، وتصفّى عن تلك الكدورات.

وكنت أظنّ أنه متلفّع بجلباب التكلّف متمّس بما صار إليه، فتحقّفت بعد السّبر والتّنقير، أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون. وحكى لنا فى ليال، كيفيّة أحواله من ابتداء ما ظهر له سلوك طريق التّألّه.

وغلبت الحال عليه بعد تبحّره فى العلوم، واستطالته على الكلّ بكلامه، والاستعداد الذى خصه الله به، فى تحصيل أنواع العلوم، وتمكّنه من البحث والنظر، حتى تبرّم من الاشتغال بالعلوم

<<  <  ج: ص:  >  >>