للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والدقة المنطقية واضحة فى هذه الرسالة مع ما يجرى فيها من طرافة التفكير، فقد جعل الجزع على الولد فجيعة لا تقل عن فجيعة فقده، بل جعلها أعظم وأنكى، إذ تحرم صاحبها الثواب. وتلطّف فدعا لصاحبه أن يعوضه الله من ولده ويخلف عليه بخير منه؛ ومن رسائله الإخوانية البديعة ما كتب به إلى بعض إخوانه يستقضيه حاجة (١):

«أما بعد فإن من قضى الحوائج لإخوانه واستوجب بذلك الشكر عليهم فلنفسه عمل لا لهم. والمعروف إذا وضع عند من لا يشكره فهو زرع لا بد لزراعه من حصاده أو لعقبه من بعده. وكتبت إليك، ولحالنا التى نحن بها فيما نذكر لك حاجة، أول ما فيها معروف، تستوجب به الشكر علينا، وتدّخر به الأيادى قبلنا».

ودقة التفكير واضحة فى الرسالة، فقد جعل قضاء أخ لأخيه حاجة ليس ممّا يؤديه إليه، وإنما يؤديه إلى نفسه، لقيامه بحقوق أخيه ونهوضه بواجبه نحوه.

ويتحدّث عن بذل المعروف، ويتبادر إليه جحود بعض الناس، فيقول إن المعروف غرس لا بد من حصاده حتى عند من يجحدون ولا يشكرون. ومرت بنا فى الفصل السالف رسائل إخوانية تحوّل بها بعض الكتّاب إلى ما يشبه رسائل أدبية تصف الأخوة والصداقة من حيث هما مفصّلة صفاتهما وشرائطهما، ولابن المقفع قطعة أدبية بديعة فى وصف أحد إخوانه، وفى رأينا أنه لم يصف فيها أخا بعينه، إنما وصف المثل الأعلى للأخ الكامل، أو بعبارة أدق للرجل الفاضل، وهى تمضى على هذه الشاكلة (٢):

«إنى مخبرك عن صاحب لى كان أعظم الناس فى عينى، وكان رأس ما عظّمه عندى صغر الدنيا فى عينه. كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهى ما لا يجد، ولا يكنز إذا وجد. وكان خارجا من سلطان فرجه، فلا يدعو إليه ريبة، ولا يستخفّ له رأيا ولا بدنا، وكان لا يبأشر (٣) عند نعمة، ولا يستكين عند


(١) جمهرة رسائل العرب ٣/ ٦٠.
(٢) انظر هذا الوصف فى آخر الأدب الكبير. وفى زهر الآداب ١/ ١٧٩ وفى جمهرة رسائل العرب ٣/ ٥٦.
(٣) يأشر: يبطر.

<<  <  ج: ص:  >  >>