للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحب من أشعار لعلها أروع ما نظمه الصوفية فى حبهم الإلهى، حتى لقّب بحق سلطان العاشقين للذات الربانية. وهى أشعار تموج بوجد ملتاع لا حدود له، متخذا لذلك لغة العشاق العذريين وما يذكرونه من معاهد المحبوبة يريد معاهد مكة التى هبط عليه فيها النور الإلهى، وأيضا ما يذكرونه من نسيم الصبا المحمل بشذى المحبوبة، وهو فى أثناء ذلك يئن وينوح آملا فى الوصال وأن يشرق عليه النور الربانى، متجرعا غصص الهجر والصد والسهاد، ويصيح فيمن تحدثه نفسه بسلوك هذا الطريق المحفوف بمالا يحصى من الأشواك والصعاب:

هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به وله عقل

وعش خاليا فالحبّ راحته عنا ... وأوّله سقم وآخره قتل

وهو لا يريد القتل الحقيقى، بل يتخذه رمزا للحظات الفناء فى الذات العلية حين يتجرد الصوفى-مثل ابن الفارض-من حواسّه ومن كل وجوده فلا يشعر بزمان ولا بمكان، وكأنما غاب عن حياته، بل كأنما مات بسبب حبه شهيدا، وهو موت لا يتحقق تصوف بدونه، حتى ينمحى المتصوف فى الذات الربانية ونورها الإلهى، وحتى لا يرى فى الوجود سوى ربه المائل فى الكون وكائناته وكل شئ فيه، يقول:

تراه-إن غاب عنى-كلّ جارحة ... فى كلّ معنى لطيف رائق بهج

فى نغمة العود والنّاى الرّخيم إذا ... تألّفا بين ألحان من الهزج (١)

وفى مسارح غزلان الخمائل فى ... برد الأصائل والإصباح فى البلج (٢)

وفى مساقط أنداء الغمام على ... بساط نور من الأزهار منتسج

وفى مساحب أذيال النّسيم إذا ... أهدى إلىّ سحيرا، أطيب الأرج (٣)

فهو يرى الله وجلاله وجماله ماثلا فى جميع أركان الكون وعناصره: فى أنغام العود والناى المرافقة لألحان الهزج، وفى مشهد غزلان الرياض وقد انتعشت قلوبها بأنفاس الأصيل والصباح، وفى الأزهار والورود مساقط أنداء الغمام وهى متناثرة هنا وهناك على أبسطة الطبيعة البهيجة، وفى النسيم يملأ الجو سحرا بشذاه وأريجه العطر. وابن الفارض لا يعبر بذلك ومثله فى أشعاره عن إيمانه


(١) الرخيم: اللين الناعم.
(٢) البلج: أول إسفار الصبح وانتشار الضوء.
(٣) الأرج: الشذى والرائحة العطرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>