للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الله يكون غلّتكم وعتادا نفيسا لكم وذخرا حبيسا عليكم، ويمضى ابن برد قائلا له:

«رسمنا تلك العدة فى سويداوات قلوبنا، ووكلنا بها حفظة خواطرنا، أما أنت فهلت عليها التراب، وأسلمتها إلى يد البلى، حتى إذا أخذت النخلة زخرفها وازّيّنت زينتها، وبلغت غايتها، وأشبع القمر صبغها، وأحكمت الشمس نضجها، جنيتها على حين نام السّمّار، وغفلت الجارة والجار، وأبت بها إيابة الأسد بفريسته. . ولما رأينا طلائع الرّطب فى الأسواق، والجنىّ من بواكير النخيل على الأطباق، هزّت جوانحنا ذكرى العدة، وقلقل أحشاءنا حذر الخيبة، فركضنا الدوابّ إلى حرمتك (١)، وجعلنا نسرع طمعا فى لقائك»

ويذكر ابن برد لصاحبه أنهم حين وصلوا إلى محلّته لقيهم فتى ظريف، فسألهم عن مقصدهم، فقالوا له: إن جارك وصديقنا وعدنا منذ عام أن يسهم لنا فى جنى نخلة لديه، لم تتشقق تربة هجر المشهورة على الخليج العربى بتمرها عن مثلها، ولا آوت قمارىّ (حمام) البصرة إلى نظيرها، فجاءوها ليأكلوا منها ويعلموا أن قد صدقهم ويكونوا عليها من الشاهدين. ويقول ابن برد:

«قال الفتى يا لإخوانى فى الخيبة أنا ساكن فى المحلة التى منبت هذه النخلة فى ساحتها وقد صرمها (قطعها) منذ خمسة عشر يوما، وقد كنت قبل صرمها أمنحها نظر العاشق إلى المعشوق، فإذا رأت الطير وهى على سعفها ما أواصل إليها من لحظاتى، وأتابع عليها من زفراتى، رمتنى بأفراد من رطبها أحلى من شفاه العذارى، وأنا اليوم أبكى ربعا خاليا».

ويتجه ابن برد بالحديث إلى صاحبه قائلا: ما هذه الخيانة للعهد، ويسأله شيئا مما ادخره منها لأعياده واعدا له أن يناصبوا عنه أعداءه برا وبحرا وأن لا يعصوا له أمرا.

ويصف له شيئا من كلام العرب فى النخل وبدء نباته والبلح وتلوّن حالاته وبعض منظومهم فيه لعله يذيب من جموده ويولّد عقيم جوده، ويورد عليه ما أثر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نعمت العمة لكم النّخلة» ويقول: «ليس من حقّه أن يستبدّ بخيرها ويمسك معروفها عنهم، ويختم الرسالة بقوله: «نستغفر الله ونسأله أن يبدلنا من بخلك نوالا، وبمطلك إعجالا». وهى رسالة طريفة بما فيها من فكاهة ومن قدرة على التصوير ومن سلاسة فى التعبير.


(١) الحرمة: ما لا يحل انتهاكه من صحبة أو حق.

<<  <  ج: ص:  >  >>