للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما تزينها القوارب التى كانت تتلألأ على صفحات دجلة بأشكالها المتنوعة من طيارات وسميريات وحديديات وحراقات وزلالات وجعفريات.

ولم تزل بغداد حاضرة للخلفاء العباسيين حتى استكثر المعتصم فى عسكره من الترك وآذوا العامة بما كانوا يجرون من خيلهم فى الأسواق والشوارع، فكانوا يرصدونهم ويقتلونهم. حينئذ رأى المعتصم أن يعتزل بجنده فى موضع ناء عن بغداد، حتى يبعد أذاهم عن العامة، ولم يزل يتخير لهم موضعا حتى انتهى إلى سامراء شرقى دجلة بين بغداد وتكريت، فأعجبه موقعها، وكان بها دير كبير فاشتراه من أصحابه، وأخذ فى بنائها سنة ٢٢١ واختلف الباحثون فى اسمها، كما اختلفوا فى بغداد، فقيل هو اسم فارسى، وقيل: بل هو آرامى (١). وأمر المعتصم أن تسمى «سرّ من رأى» وبهذا الاسم كانت تضرب النقود العباسية.

وقد أحضر لها المعتصم المهندسين والفعلة والصناع من سائر الأمصار وابتدأ فيها ببناء قصره (٢) المسمى بالجوسق وابتنى بجواره مسجدا كبيرا، كما ابتنى دورا مختلفة للدواوين، وأخرى لقواده ورجال حاشيته وموظفيه الكبار. وابتنى لجنده قطائع فى المسطيرة جنوبيها، واختطّ فيها الشوارع والدروب، وأفرد لأهل كل صناعة وتجارة سوقا خاصة بهم. فارتفع بها البنيان وكثرت العمارة، ويقال إن المعتصم حمل إليها الساج وسائر الخشب من البصرة والرخام من أنطاكية واللاذقية.

وأجرى فيها قنوات تأخذ من دجلة، وعقد عليه جسرا يصلها بجانبه الغربى، وأنشأ بها كثيرا من المتنزهات والملاعب. ويقال إنه جلب إليها الغروس من البصرة ومن الشام وخراسان وسائر البقاع.

وظل الخلفاء بعد المعتصم يقيمون بها حتى سنة ٢٧٦ إذ تحولوا منها إلى بغداد، وكان ذلك سببا فى أن أسرع الخراب إليها، فلم يكد يتقدم القرن الرابع الهجرى حتى أصبحت أطلالا ورسوما إلا ما كان من مسجدها الذى تأنق المعتصم فى بنائه حتى قال المقدسى إنه يفضل مسجد الوليد بن عبد الملك بدمشق فى عمارته، ولا تزال مأذنته الشاهقة قائمة إلى اليوم.


(١) انظر بلدان الخلافة الشرقية تأليف لسترانج وترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد ص ٧٦ ومادة سامراء فى دائرة المعارف الإسلامية.
(٢) راجع فى تخطيط سامراء المرجعين السالفين والمسعودى ٤/ ٩ وكتاب البلدان لليعقوبى ومعجم البلدان لياقوت.

<<  <  ج: ص:  >  >>