للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واحْتَجَّ الأَصْحَابُ بخبر وَاثِلَةَ، فإن اسْتِيجَابَ النَّارَ إنما يكون عند التَّعَمُّدِ، وبأنه قَتْلُ آدَمِيٍّ يوجب الضَّمَانَ، فيوجب الكَفَّارَةَ كالخَطَأِ، وبأن الكَفَّارَةَ لِلْجَبْرِ وإصْلاَحِ الحال، والعامد أَحْوَجُ إليه، وصار كما في جَزاءِ الصَّيْدِ، يستوي فيه العَامِدُ والمُخْطِئُ.

وخِلاَفُ أبي حنيفة في العَمْدِ الذي يوجب القِصَاصَ، واختلف أصحابه فيما لا يُوجِبُ كَقَتْلِ الوَالِدِ وَلَدَهُ، والسيد عَبْدَهُ، وحَكَى القاضي الروياني فيما إذا اقتصَّ من المُتَعَمَّدِ، هل تَجِبُ الكَفَّارَةُ في مَالِهِ؟ وَجْهَيْنِ عن رِوايَةِ أبي عَلِيٍّ بن أبي هُرَيْرَةَ، والطَّبَرِيِّ.

أصحهما: الوجوب؛ لأن حُقُوقَ الله -تعالى- الواجِبَةَ في المال لا تَسْقُطُ بالموت.


= تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ...} الآية.
ووجه الاستدلال: أن شبه العمد فيه خطأ من وجه، فكان داخلًا في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ...} الآية. فيجب فيه ما يجب في الخطأ.
ويرد هذا الاستدلال بأن شبه العمد مغاير للعمد كما هو مغاير للخطأ، والآية لم يذكر فيها إلا الخطأ، كما أن الآية الثانية لم يذكر فيها إلا العمد، فكان مقتضى الاستدلال على عدم وجوب الكفَّارة في القتل عمدًا بالآية السابقة عدم وجوبها أيضًا في شبه العمد، وإلا كان ذلك زيادة على النص، كما يقولون. وإثباتهم الكفَّارة في شبه العمد ظهر أنه بالقياس على الخطأ لوجود ما يجمعها، فيجب القول بثبوتها كذلك في القتل عمدًا بالقياس على القتل خطأ، لاشتراكهما معًا في جنس القتل، ولا يفيدهم القول بأن الكفارات لا تثبت بالقياس بعد ما ثَبَتَ من قولهم به ثبوت الكفَّارة في شبه العمد، وبعد ما ظهر أن ذلك بالقياس على الخطأ.
واستدل الشَّافِعِيَّةُ على وجوبها في غير الخطأ بما رواه أحمد، وأبو داود، والنِّسَائِي عن وَائِلَةَ بن الأَسْقَع قال: أتينا رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ "يَعْنِي النَّارَ بِالْقَتْلِ" فَقَالَ: "أَعْتِقُوا عَنْهُ يَعْتِقُ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنهُ مِنَ النَّارِ".
ووجه الدلالة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ السائلين بأن يعتقوا رَقَبَةً عمن مات، وقد استحق النار بالقتل، ومعلوم أن الذي يستحق النار بالقتل هو من قتل قتلاً عمدًا، أو شبه عمد؛ لأن القاتل خطأ لا يستحق النار بالقتل اتفاقًا لعذره بالخطأ مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ، والنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" والأمر للوجوب، فكانت الكفَّارة في غير الخطأ واجبة، وبذلك يكون هذا الحديث مبينًا أن المذكور في الآية المتعلقة بالقتل العمد ليس هو كل جزاء القاتل، بل يكون هذا جزاءه إن لم يخرج الكفَّارة، وإذا كانت الكفَّارة ثابتة في الخطأ مع أنه لا إثم فيه، فلا شك أن ثبوتها في القتل العمد من باب أولى، لأن الكفَّارة شأنها أن تكفر، وتستر ما وقع من ذنب أو خطيئة، وذلك في العمد متحقق بأجلى معانيه؛ لأن الإثم فيه عظيم، والجرم فيه كبير.
ومما تقدم يظهر لنا رجحان مذهب الشافعية؛ لان دليلهم لم يرد عليه ما ورد على غيره من مناقشات تجعله غير صالح للاستدلال به، ولكن ينبغي أن يفصل بين من اقتص منه، فلا تجب عليه كفارة؛ لأن القصاص نفسه كفارة، كما تقدم في مبحث "الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ" وبين من لم يقتص منه فتجب عليه، ويؤيد هذا الحديث المذكور عن واثلة بن الأسقع.

<<  <  ج: ص:  >  >>