للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السابقة عليه كالأمر بين كل حق وحق؛ فقد يكون الشيء حقًّا وغيره حقًّا فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين فلا يشهد بعضهما لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدًا و ﴿مُصَدِّقًا﴾ لما بين يديه من الكتب، فأنى يكذب به من يؤمن بها؟!

ثم يستمر في إكمال هذا الوجه قائلًا: ولو أنَّ التحريف أو الضياع الذي نال من هذه الكتب قد ذهب بمعالم الحق فيها جملة لكان لهم بعض العذر في تكذيبهم بالقرآن؛ إذ يحق لهم أن يقولوا: (إن البقية المحفوظة من هذه الكتب في عصرنا ليس بينها وبين القرآن هذا التطابق والتصادق، فليس الإيمان بها موجبًا للإيمان به) .. بل لو أن هذه البقية ليست عندهم ولكنهم كانوا عن دراستها غافلين، لكان لهم مثل ذلك العذر، أما وهذا القرآن مصدق لما هو قائم من الكتاب في زمنهم وبأيديهم ويدرسونه بينهم فبماذا يعتذرون وأنى يذهبون؟! هذا المعنى كله يؤديه لنا القرآن بكلمة ﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾.

فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رُفعت وأخرى وُضعت (١) في مكانها عند الحاجة إليها؛ فكانت هذه الكلمة حسمًا لكل عذر، وسدًّا لكل باب من أبواب الهرب؛ بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم تمت في خطوة واحدة، وفي غير ما جَلَبَةٍ ولا طنطنة.

ولما قضى وطرَ النَّفس من هذا الجانب المطويِّ الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجَّحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابًا وتفنيدًا، وبيَّن أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أُشرِبُوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضًا مزمنًا، وأنَّ الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم؛ وساق على


(١) ذلك أنه كان مقتضى السياق أن يقال: (مصدقًا لما أنزل عليهم) ولكنه لأمر مَا نحى عن كتابهم ذلك اللقب القديم، وألبسه هذا العنوان الجديد، ولو بدلت أحد اللقبين مكان الآخر لما صلح أحدهما في موضع صاحبه، بل لو جئت بلقب آخر فقلت: (مصدقًا لما هو باق في زمنهم) أو (مصدقًا لما عندهم) لما تم الإلزام، وهذا من عجب شأن القرآن؛ لا تبديل لكلماته.

<<  <   >  >>