للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها، في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١].

١ - تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة؛ إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه؛ وهل الذي يكذب من يُصدقك يبقى مصدِّقًا لك؟!

غير أن هذا المعنى إنما أخذ استنباطًا من أقوالهم، وإلزامًا لهم بمآل مذهبهم، ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم، فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد.

وهكذا كانت كلمة ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ مغلاقًا لما قبلها مفتاحًا لما بعدها، وكانت آخر درجة في سلم الغرض الأول هي أول درجة في سلم الغرض الثاني.

فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام! وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان، تدريجًا له على مدارجها، وتنزيلًا له على قدر حاجتها وفي وقت تلك الحاجة! فما هو إلا أن آنس تطلُّع النفس واستشرافها من تلك الكلمة إلى غاية، إذا هو قد استوى بها إلى تلك الغاية ووقفها عليها تامة كاملة.

٢ - وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلي، وأعرض عن ذكر الكاسب الحقيقي لتلك الجرائم، فلم يقل: (فلم قتل آباؤكم أنبياء الله، واتخذوا العجل، وقالوا سمعنا وعصينا؟)؛ إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة في بادئ الرأي، مثلها كمثل محاجة الذئب للحَمَل في الأسطورة المشهورة (١)، فكان يحق لهم في جوابها أن يقولوا: (وما لنا ولآبائنا؟ تلك أمة قد خلت، ولا تزر وازرة وزر أخرى).

ولو زاد مثلًا: (وأنتم مثلهم، قد تشابهت قلوبكم وقلوبهم) لجاء هذا التدارك بعد فوات الوقت، ولتراخى حبل الكلام وفترت قوته.


(١) التي تزعم أن ذئبًا عدا على حمل صغير بحجة أن أخاه أو أباه كان قد عكر عليه ماء القناة وهو يشرب منذ عام مضى، وهي تمثل عدوان القوي على الضعيف استنادًا لأوهن الأسباب.

<<  <   >  >>