قسم علماء البلاغة الكلام إلى (مساو) و (موجز) و (مطنَب)، وعرَّفوا المساواة بأنها أداء المعنى بلفظ على قدره، والإيجاز بأنه أداء المعنى بلفظ ناقص عنه وافٍ به، والإطناب بأنه أداء المعنى بلفظ زائد عنه لفائدة. وجعلوا المقياس الذي يضبط به هذا التقسيم أمرًا عرفيًّا أو وضعيًّا: فاعتبر (السكاكي) المقدار الذي يتكلم به أوساط الناس في محاوراتهم ومتعارف خطابهم، هو ضابط المساواة، وهو القدر الذي لا يحمد منهم ولا يذم في باب البلاغة، فما نقص عنه مع الوفاء به فهو الإيجاز، وما زاد عنه مع الإفادة فهو الإطناب، والكلام البليغ إنما يقع في هذين الطرفين، هذا محصول كلام (السكاكي). وقد وافقه الذين جاءوا من بعده على هذا التقسيم، إلا أن بعضهم رأى أن البناء على العرف فيه رد إلى الجهالة، فجعل حد المساواة هو المقدار الذي يؤدي المعاني الأولية بالوضع من غير رعاية للمناسبات الزائدة على أصل المعنى. وقد فهمنا من وضعهم التقسيم على هذا الأساس، واعتبارهم المساواة بأحد هذين المقياسين المتحدين في المآل، أنهم ظنوا أن العبارة التي تؤدى بها المعاني الأولية في لسان العوام تقع دائمًا بين الإطالة والاختصار. وهذا ما لا دليل عليه في العرف ولا في الوضع، أمَّا الأول فإن العوام يتكلمون في المعنى الواحد باللفظ المطول تارة وبالمختصر تارة أخرى، وإن لم يتحروا إصابة المحزِّ في كل منها، وأما الثاني فلأن اللفظ الذي وضع في اللغة لتأدية المعنى الأول مختلف، فمنه ما يؤديه بوجه مجمل، ومنه ما يؤديه بلفظ مفصل، وكل من الإجمال والتفصيل يتفاوت في نفسه تفاوتًا كثيرًا، فلا ينضبط منهما قدر يرجع إليه في معرفة الإيجاز والإطناب؛ إذ ما من كلام وجيز إلا ويمكن تأدية معناه الإجمالي بأقل من لفظه أو بما يساويه وإن لم يغنِ غناءه ولم يوفِ وفاءه، حتى المثل الذي عدوه علمًا في الإيجاز وهو قوله تعالى: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [الآية (١٧٩) من سورة البقرة] يمكن تأدية أصل معناه بقولك (انتقم تسلم) أو (اقتص تحيا) أو بالاكتفاء بكلمتين منه (القصاص حياة)، بل فاتحة الكتاب الكريم التي جمعت مقاصد القرآن كلها في سبع آيات يمكن أداء معانيها الأصلية في خمس كلمات: (نحمدك اللهم ونعبدك، ونستعينك ونستهديك) وإن شئت ففي أقل من ذلك. وكذلك يقال: ما من كلام مطنب إلا ويمكن تأدية معناه الوضعي مفصلًا في لفظ أطول منه، فقوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [الآية (١٩٤) من سورة البقرة] إيجاز، وقد جاء بسطه في قوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [الآية ٤٥ من المائدة] وهذا الكلام على طوله يعد موجزًا إذا قيس إلى قولك في مثل معناه: (من قتل نفسًا قتل بها، ومن فقأ عينًا فقئت عينه، ومن جدع أنفًا جدع أنفه، ومن جدع أذنًا جدعت أذنه، ومن كسر سنًّا كسرت سنه .. وإن شئت زدت: واليد باليد، والأصبع بالأصبع، والآمَّة بالآمَّة والموضِحَة بالموضِحَة وهلمَّ جرا. وقوله تعالى: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الآية (٥٩) من سورة المائدة] جاء معناه مبسوطًا في قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [الآية (١٣٦) من سورة البقرة] وهذا المعنى يؤدى عادة بقولك: آمنا بالله وبالقرآن الذي أنزله الله إلينا، وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى، وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، وبالزبور الذي آتاه الله لداود، وبالصحف التي آتاها الله لإبراهيم ولو شئت عددت الأسباط سبطًا سبطًا، وذكرت سائر من قص الله علينا من النبيين في غير هذا الموضع بل لو شاء الله لقص علينا من أنباء سائر الرسل ما لم يقصه علينا. والقوم معترفون ضمنًا بوجود هاتين المرتبتين في كلام العوام، إذ قالوا: إن مرتبتي الاختصار المخل والتطويل الممل ليستا من البلاغة في شيء فإذا لم تكونا من كلام البلغاء كانتا البتة من كلام غير البلغاء وإلا فكلام من تكونان؟! وإذًا فلا تصلح المعاني الأولية ولا العبارات العامِّية مقياسًا منضبطًا للوسط المفروض. هذا وقد نشأ من قياسهم التوسط بالمقدار الذي تؤدى به المعاني الأولية في لسان العوام - بعد تسليم كونه وسطًا - أن جعلوا الفضيلة البيانية في هذا الباب مائلة أبدًا إلى طرف النقص أو طرف الزيادة. وذلك عكس ما بنيت عليه قاعدة الفضائل من تبوئها مكانًا وسطًا بين الأطراف، ولقد تعجب إذا رأيتهم يرجعون فيدخلون المساواة في كلام الرجل البليغ إذا دعاه إليها داع، كأن يكون كلامه مع العامة ثم تزداد عجبًا إذا رأيتهم يدخلونها في القرآن نفسه، وهو كما علمت خطاب للعامة وللخاصة على السواء، ويمثلونها بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [الآية (٤٣) من سورة فاطر] على أن في هذه الكلمة إيجازًا بالحذف على اصطلاحهم نفسه، إذ المعنى (لا يحيق ضرر المكر وعاقبته). لهذا كله رأينا أن نضع التقسيم وضعًا آخر نرد فيه الفضيلة إلى نصابها من الحد الوسط، ونرجع فيه الذم إلى الطرفين، وذلك يجعل المقياس هو المقدار الذي يؤدى به المعنى بأكمله، بأصله وحليته على حسب ما يدعو إليه المقام من إجمال أو تفصيل؛ بغير إجحاف ولا إسراف، هذا القدر الذي من نقص عنه أو زاد عده البلغاء حائدًا عن الجادة بقدر ما نقص أو زاد، هو الميزان الصحيح الذي لك أن تسمي طرفيه بحق تقصيرًا أو تطويلًا، وأن تسميه هو بالمساواة أو القصد أو التوسط أو التقدير أو ما شئت فسمه. ونحن قد سميناه أيضًا باسم (الإيجاز) مطمئنين إلى صحة هذه التسمية، إذ رأينا حد الإيجاز ينطبق عليه، فما الإيجاز إلا السرعة والتخفيف في بلوغ الحاجة بالقدر الممكن، فالذي يسرع فوق الطاقة لا يبلغك حاجتك فيكون مجحفًا مخلًّا، والذي يبطئ حيث تمكن السرعة لا يكون إلا مسرفًا مملًّا. ورأينا الناس ما زالوا يتواصون بهذه الوجازة في البيان ويجعلون خير الكلام ما قل ودل، حتى روي عن سيد البلغاء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي: «يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف» * هكذا أحفظه، ولا يحضرني الآن تخريجه، وما سمعنا أحدًا يوصي بهذا الإطناب الذي عده المؤلفون فضيلة ثانية تقابل الإيجاز، وإنما هو إحدى شعبتيه: الاختصار المفهم، أو الإطناب المفخم، ولو سميناه فضيلة ثانية تقابله لخشينا أن تكون هذه المقابلة وحدها رخصة في التحلل من قيوده وتسامحًا في الإكثار الذي جاء ذمه بكل لسان، حتى قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة مساوئكم أخلاقًا الثرثارون المتشدِّقون المتفيهقون»، رواه أحمد وابن حبان وغيرهما عن أبي ثعلبة* *. فلا وربك إنما هي فضيلة واحدة تطلب من المتكلم في كل مقام، ويؤخذ بها في سعة التفصيل كما يؤخذ بها في ضيق الإجمال، بل لعلها في مقام التفصيل آكد طلبًا وأصعب منالًا. فالكلام الطويل إن حوى كل جزء منه فائدة تمس إليها الحاجة في الموضع ولا يسهل أداء تلك الفائدة بأقل منه كان هو عين الإيجاز المطلوب، وإن أمكن أداء الأغراض فيه كاملة بحذف شيء منه أو بإبداله بعبارة أخصر منه كان هو حشوًا أو تطويلًا معيبًا، والكلام القصير إن وفى بالمقاصد الأصلية والتكميلية المناسبة في الحال كان هو التوسط المطلوب، وإلا كان بترًا أو تقصيرًا معيبًا. وليس الإيجاز قاصرًا على جانب الإجمال كما زعموا حتى بنوا عليه ما بنوا، وحتى أخرجوا منه مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ [الآية (١٦٤) من سورة البقرة]، وجعلوها من باب الإطناب بحجة أنه يمكن إيجازها بهذه العبارة: (إن في ترجيح وقوع أي ممكن كان لا على وقوعه لآيات للعقلاء) «مفتاح العلوم»، وأنت فهل عهدت عربيًّا قط بليغًا أو غير بليغ تكلم بهذا التعبير الفلسفي الجاف القلق الذي افترضه (السكاكي) مقياسًا للمساواة في معنى الآية، كلَّا، إنك لو رجعت إلى ما تكلم به الناس في آيات الله الكونية تفصيلًا أو إجمالًا لرأيت كلامًا عربيًّا صحيحًا أطول من هذا أو أقصر، ولرأيت الآية الكريمة هي أوجز كلام وأحكم نظام في بابها من التفصيل، كما أن قوله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الآية (١٠١) من سورة يونس] هو أوجز كلام في بابه من الإجمال. قلنا: إن فضيلة الإيجاز بمعناه الصحيح هو الوسط المعتدل، وهو الفضيلة الوحيدة التي تواصى بها البلغاء في كل مقام بحسبه، غير أنه ليس للإنسان ما تمنى، فالمثل الكامل وإن تطاولت إليه أعناق الناس وتفاوتوا في طلبه قربًا وبعدًا، لا يستطيع أحد منهم أن يأتي على غايته، وإنما أتى عليها القرآن الحكيم، فهو المثل الأعلى في حسن الإيجاز، كيف لا وهو حد الإعجاز. * الحديث الذي ذكره المصنف، لم أجده في كتب الحديث، وهو موجود في الكامل في اللغة والأدب: (١/ ١٠)، وقد نسبه غير واحد لابن عساكر مرسلًا، بلفظ: «يا جرير إذا قلت فسدد ولا تكلف إذا قضيت حاجتك»، جمع الجوامع: (١/ ٤٨٠)، كنز العمال: (٣/ ٣٤٦). * * «عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله ﷺ قال: «إن أحبَّكم إليَّ وأقربكم مني، محاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني، مساوئكم أخلاقًا، الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون»، رواه أحمد: (١٧٧٤٣)، (٢٩/ ٢٧٩).