للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ويل أمّه، مسعر حرب لو كان معه رجال» «١» .

وأدرك أبو بصير أنّه لا مقام له في المدينة، ولا مأمن له في مكة، فانطلق إلى ساحل البحر، في ناحية تدعى العيص، وشرع يهدّد قوافل قريش المارة بطريق الساحل، وسمع المسلمون بمكة عن مقامه، وعن كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: «مسعر حرب لو كان معه رجال» . فتلاحقوا بأبي بصير، يشدّون أزره، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين ثائرا، فيهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو.

وألّف أولئك المعذّبون الناقمون جيشا، ضيّق الخناق على قريش، فلا يظفر بأحد منهم إلا قتله، ولا تمرّ بهم عير إلا اقتطعوها.

وإذا قريش ترسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناشده الرّحم أن يؤوي إليه هؤلاء فلا حاجة لها بهم.

وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعنتا، وقبله المسلمون كارهين.

وقصة أبي بصير وأبي جندل وإخوانهما لها دلالة مثيرة، فهي قصة العقيدة المكافحة في لؤم من الأعداء، ووحشة من الأصحاب! وهي توضّح أنّ الإيمان بالله أخذ طريقه إلى قلوب أولئك النفر مجرّدا من كل شيء إلا سلامة جوهره.

إنّهم قد فقدوا الأمداد الروحية التي تجيئهم من مخالطة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإصغاء إليه، وهو يتلو وينصح، بيد أنهم عوّضوا عنها من الاتصال بكتابه والاقتباس من ادابه، فكانوا- في اهتدائهم للحق، وإبائهم للضيم، وإيثارهم للمغامرة- مثلا حسنى للإسلام المكافح العزيز.

ولم يعد أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الإذن بالمقام معه جاء وهو يحتضر، وروى موسى بن عقبة أنّ رجال أبي بصير صادروا قافلة كان فيها أبو العاص بن الربيع صهر النبي صلى الله عليه وسلم- وهو لما يدخل الإسلام بعد- وأسروا من فيها ما عدا أبا العاص- لمكانته- فذهب أبو العاص إلى زينب امرأته، وشكا لها ما وقع لأصحابه، وما ضاع لهم من أموال، وحدّثت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب النّاس قائلا: «إنّا صاهرنا أناسا، وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصّهر وجدناه، وإنّه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو


(١) صحيح: وهو من تمام القصة عند البخاري وأحمد.

<<  <   >  >>