للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذه المدينة؟ فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذه المدينة على حالها من عهد الطوفان. فغبت عنها نحو خمسمائة سنة ثم أتيت إليها، فإذا عاليها سافلها وهي تدخن بدخان شديد، فلم أر أحدا أسأله ثم أتيت راعيا فسألته أين المدينة؟ قال سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا المكان هكذا منذ كان.

فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي. فسبحان مبيد العباد ومفني البلاد ووراث الأرض ومن عليها وباعث من خلق منها بعد رده إليها.

ولبعضهم:

قف بالديار فهذه آثارهم ... تبكي الأحبّة حسرة وتشوّقا

كم قد وقفت بها أسائل أهلها ... عن حالها مترحّما أو مشفقا

فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقت من تهوى وعزّ الملتقى

ولبعضهم:

أيها الربع الذي قد دثرا ... وكان عينا ثم أضحى أثرا «١»

أين سكانك ماذا فعلوا ... خبرن عنهم سقيت المطرا

فلقد نادى منادي دارهم ... رحلوا واستودعوني عبرا «٢»

وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: أوحى الله إلى الدنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه، يا دنيا مرّي على أوليائي ولا تحلي لهم فتفتنيهم.

وقال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح كلما ازداد صاحبها شرابا ازداد عطشا، أو كالكأس من عسل وفي أسفله سم فللذائق منه حلاوة عاجلة وفي أسفله الموت، أو كحلم النائم يفرح في منامه فإذا استيقظ زال فرحه أو كالبرق يضيء قليلا ثم يذهب. ولما بنى المأمون قصره الذي ضرب به المثل نام فيه فسمع قائلا يقول:

أتبني بناء الخالدين وإنّما ... بقاؤك فيها إن عقلت قليل

لقد كان في ظلّ الأراك كفاية ... لمن كلّ يوم يقتضيه رحيل

قال، فلم يلبث بعدها إلا قليلا ومات وقال:

ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع «٣»

ووجد مكتوب على قصر باد أهله:

هذي منازل أقوام عهدتهم ... في خفض عيش نفيس ماله خطر

صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا ... إلى القبور فلا عين ولا أثر

ولو قيل للدنيا صفي نفسك ما عدت ما وصفها به أبو نواس بقوله:

وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق

وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رجع من صفين ودخل أوائل الكوفة رأى قبرا فقال: قبر من هذا؟

فقالوا: قبر خباب بن الأرت، فوقف عليه وقال: رحم الله خبابا أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا، وابتلي في جسمه آخرا ألا وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ثم مشى فإذا هو بقبور، فجاء حتى وقف عليها، وقال:

السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وبكم عما قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز عنا وعنهم. طوبى لمن ذكر المعاد وعمل ليوم الحساب وقنع بالكفاف، ورضي عن الله تعالى ثم قال: يا أهل القبور أمّا الأزواج فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت وأما الأموال فقد قسمت وهذا ما عندنا، فما عندكم، ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما أنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى، والله سبحانه وتعالى أعلم.

<<  <   >  >>