للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بهذه الخيانة النومية في الخدمة، ولكنا رأينا لهذه النقيصة مع ذلك شيئاً من الفضل، فقد وجدنا لدينا بعد زمن قليل مدخراً من المآكل والحاجيات كنا نريد أن نتناساها ونغفل أمر خزنها ن مكرهين على ذلك بدافع الاقتصاد الذي أكرهتنا الحرب على مراعاته.

على أن هذه لم تكن وحدها الخسائر التي لحقت بنا من هذه الذاكرة الزنجية فقد كان لدينا طابق من طباق البيت ظل زمناً لم يستأجره أحد وقد بقي إلى الآن بلا مستأجر، والفضل أو النكبة في ذلك تعود إلى العم سرور فقد حاولنا ألف مرة أن نوصيه أشد الوصاة أن يقول لطلاب الإيجار أن إيجار الشقة لا يقل عن جنيهين ونصف جنيه، ولكنه كان ينسى ذلك في كل مرة يعرض فيها للطابق مستأجر، فلا يفتح الله عليه بما يقوله للمستأجرين إلا أن الإيجار هو جنيه ونصف وقد كان الطابق لا يساوي حقاً إلا هذا القدر فكأنما وضع عم سرور له الأجرة العدل الواجبة، فلم يسع المستأجرين إلا أن يأخذوا بقوله ويسخروا من أقوال أصحاب البيت، فظللنا في خلاف وعم سرور، مصرين نحن على ما قدرنا، ومصراً هو على ما قدر - وكذلك ظلت الشقة بدون إيجار حتى اليوم.

ورأى عم سرور بعد حين الرغيف الذي يقدم إليه في جلسات الطعام يصغر شيئاً فشيئاً ويتضاءل حيناً فحيناً ولم يكن قد سمع بالحرب ولا يعرف في أي قطعة من الأرض تشتعل هذه الحرب وتنتشب، لأنه لا يدري أن وراءه الحارة عالماً خارجياً، ودولاً عظمى هي السبب الأكبر في صغر حجم رغيفه، فشكا إلينا الأمر وسألنا الباعث والداعي فلما أنبأناه بأن الحرب قائمة وأن الإنسانية تتنازع وتتقاتل، لم يدرك من كل ذلك شيئاً وحسبها شجاراً في الدرب الأحمر ولما لم ير صلاحاً لحجم رغيفه أفلت من البيت هارباً.

تلك هي صورة من صور الفضيلة البلهاء النائمة، وقد يستعذبها كثيرون ويستثمرونها ولكني أؤثر عليها ذكاء مشتعلاً شريراً يأتي بالإثم والضر، لأني لا أنسى ألم وقوفي بالباب الساعات الطوال في صميم الشتاء بفضل تلك الفضيلة السلبية الناعسة. . . . . . .

عباس حافظ