للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القسطنطينية ومكنّوا لدين محمد فيها. هنالك امتدّت كلمته إلى البلقان كلها، وانبلج نوره في روسيا وفي بولونيا، وخفقت أعلامه على أضعاف ما كانت تخفق عليه من أرض إسبانيا. ومن يوم انتشر الإسلام في صولته الأولى إلى يومنا لم يتغلّب عليه من الأديان متغلّب، وإن تغلّب على أممه من شدائد الظلم وألوان التحكم ما جعلها أشدّ بالله إيمانا، ولحكمه إسلاما، وفي رحمته وفي غفرانه أملا ورجاء.

[الإسلام والمسيحية]

هذه القوّة التي انتشر الإسلام بها سرعان ما وقفته وجها لوجه أمام المسيحية وقفة نضال مستميت. لقد تغلّب محمد على الوثنية، ومحا من بلاد العرب، كما محا خلفاؤه الأوّلون من بلاد الفرس والأفغان وطائفة كبيرة من بلاد الهند، أثرها. ولقد تغلّب خلفاء محمد على المسيحية في الحيرة واليمن والشام ومصر إلى مهد المسيحية مدينة قسطنطين. أفقدر على المسيحية ما قدّر على الوثنية من اضمحلال وهي دين كتاب من الأديان التي أشاد بها محمد ونزل الوحي بنبوّة صاحبها؟ وهل قدّر لهؤلاء العرب، عرب البادية الزاحفين من شبه الجزيرة الصحراوية القاحلة، أن يضعوا أيديهم على حدائق الأندلس وبزنطية وسائر البلاد المسيحية؟ الموت ولا هذا! واستمر القتال بين أتباع عيسى وأتباع محمد قرونا متتالية. ولم يقف القتال عند حرب الأسنّة والمدافع، بل تعدّاها إلى ميادين الجدل والنضال الكلامي، جاء المقاتلون فيها بأسماء محمد وعيسى، وجعل كل فريق يلتمس الوسيلة لتأليب السواد واستثارة حماسة الجماهير وتعصّبها.

[المسلمون وعيسى]

على أن الإسلام حال بين المسلمين وبين الحط من مقام عيسى، أنه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبيا، وجعله مباركا أينما كان، وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيّا، وبرّا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيّا فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا. أمّا المسيحيون فقد جعل الكثيرون منهم يعرّضون بمحمد وينعتونه بأوصاف يبرأ منها المهذّب من الرجال، شفاء لما في نفوسهم من غلّ، واستفزازا وحفزا لشهوات الناس الدنيا. وعلى رغم ما يقال من أن الحروب الصليبية وضعت أوزارها منذ مئات السنين ظلّ تعصّب الكنيسة المسيحية على محمد على أشدّه إلى عصور قريبة. ولعله كذلك ما يزال إن لم يك أشدّ، وإن كان خفيا يعمل في ظلمات التبشير بالدون من الوسائل. ولم يقف الأمر عند الكنيسة بل تعدّاها إلى كتّاب وفلاسفة في أوروبا وفي أمريكا لم تك تصلهم بالكنيسة صلة تذكر.

[المسيحيون المتعصبون ومحمد]

ولقد يعجب الإنسان أن يظل تعصب المسيحية على الإسلام بهذه الشدة في عصر يزعمون أنه عصر النور والعلم، وأنه لذلك عصر التسامح وسعة الأفق. ويزداد الإنسان عجبا إذ يذكر المسلمين الأوّلين وكيف كان اغتباطهم بانتصار المسيحية على المجوسية عظيما حين ظفرت جيوش هرقل بأعلام فارس وكسرت عسكر كسرى. فقد كانت فارس صاحبة النفوذ في جنوب شبه جزيرة العرب منذ أخرج كسرى الأحباش من اليمن.

ثم إن كسرى وجّه جيوشه- سنة ٦١٤ ميلادية- تحت إمرة قائد من قوّاده يدعي شهر براز «١» لغزو الروم، فظهر عليهم حين التقى بهم بأذرعات وبصرى، أدنى الشام إلى أرض العرب، فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع


(١) يذكر الدكتور بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر) أن اسم هذا القائد خوريام، وأن (شهربرز) و (شهربراز) و (شراوزيه) وغيرها من الأسماء التي لقب بها في الكتب المختلفة ليست إلا تحريفا للاسم الفارسي (شهر- وزر) وهو لقب معناه (الخنزير البري للملك) رمزا للقوة الباسلة، فكانت صورته مائلة لذلك على خاتم فارس القديمة وكذلك على خاتم أرمينية. (راجع فتح العرب لمصر ص ٥٣) .

<<  <   >  >>