للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كأنها صيغت لمن نالها ... من عنبر بالمسك معجون

ولعلها السندية العجماء التى لم يتبع جنازته سواها (١). وذكر فى غزله كثيرات من القيان والجوارى، وفتن فتونا بعبدة، وقد أفرد صاحب الأغانى لأخباره معها فصلا خاصّا (٢).

وواضح مما قدمنا أن طبيعة بشار لم تكن بسيطة ولا ساذجة، بل كانت معقدة، فقد كان فارسى الأصل، وورث عن الفرس حدة فى المزاج، ونشأ قنّا ابن قنّ، وولد أعمى لا يبصر. وكان لذلك يحسّ بغير قليل من المرارة، وضاعفها فى نفسه فقرأ سرته وتخلفها فى المجتمع. وقد ربى فى مهد عربى، فأتقن العربية وتمثّل سليقتها بكل مقوّماتها. وسرعان ما أخذ يختلف إلى حلقات المتكلمين بالمسجد الجامع يستمع إلى محاوراتهم لأصحاب الملل والنحل والأهواء المختلفة، وليس من ريب فى أنه اطلع على ما نقله ابن المقفع إلى العربية من الآداب الفارسية وغير الفارسية ومن الآراء المزدكية والمانوية. وكان ذلك كله سببا فى أن يحدث تشويش فى فكره وأن تمتلئ نفسه بالشك والحيرة، ولم يستطع الخلوص من ذلك فتحول زنديقا ببغض الدين الحنيف، حتّى إذا نجحت الثورة العباسية تحوّل شعوبيّا يبغض العرب والعروبة. وكانت بيئته تكتظ بالجوارى والقيان ممن لا يعصمهن من الغواية دين ولا عرف، فاختلط بهن، وتغزل فيهن غزلا حسيّا، وربما دفعه فقد بصره إلى ذلك من بعض الوجوه، إذ الضرير لا يرى الجمال ببصره، إنما يحسه بلمسه ويده، ويتسع جشعه الجسدى، حتى ليصبح غزله، فى بعض جوانبه ضربا من صياح الغريزة النوعية الذى ينبو عن الذوق.

وكل هذه العناصر السالفة أثرت فى طبيعة بشار وجعلتها شديدة التعقيد، ويجمع الرواة والنقاد على أنه زعيم الشعراء المحدثين، وهى زعامة تردّ إلى أنه استطاع أن ينهج لهم فى قوة السبيل التى ترسّمها الشعراء من حوله ومن بعده، وهى سبيل تقوم على التمسك بالأصول التقليدية للشعر العربى من جهة، ومن جهة ثانية تفسح لتجديد الشاعر العباسى بحكم رقيه العقلى ومعيشته الحضارية. وبذلك ازدهر الماضى فى الحاضر ونما الحاضر من خلاله هذا النمو الذى جعل الشعر العربى عنده يحتفظ


(١) أغانى ٣/ ٢٤٨.
(٢) أغانى ٦/ ٢٤٢ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>