للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمديح أهم غرض وصل بشارا بالتراث القديم، فقد حافظ فيه محافظة شديدة على سننه الموروثة، سواء من حيث جزالة الصياغة ورصانتها ومتانتها، أو من حيث المنهج الذى سار عليه القدماء، إذ كانوا يقدّمون بين يديه وصف الأطلال والنسيب والغزل ووصف البعير أو الناقة ورحلتهم عليهما فى الصحراء مستطردين إلى وصف مشاهدها الطبيعية وما يجرى فيها من حيوان، ثم يخرجون من ذلك إلى المديح بمآثر الأفراد والقبائل ناثرين فى أطراف قصيدهم بعض الحكم. وكل ذلك احتذاه بشار فى كثير من مدائحه، بل لقد احتذى نفس المعانى والأخيلة، وبلغ من شدة هذا الاحتذاء عنده أن نظم بعض مدائحه على غرار أراجيز رؤبة مكثرا فيها من الغريب الوحشى على نحو ما هو معروف فى أرجوزته (١): (يا طلل الحىّ بذات الصّمد). ونراه يصرح فى بعض مدائحه بأنه بناها أعرابية وحشية حتى يرضى ممدوحه سلم بن قتيبة الذى كان يتباصر بالغريب (٢).

وإذا تركنا إطار المديح ومقدماته إلى معانيه التى ساقها فى وصف الخلفاء والولاة وجدناه يخلع عليهم نفس الشّيم الرفيعة التى طالما خلعها الجاهليون والإسلاميون على ممدوحيهم من الكرم والمرءوة والشجاعة والنجدة وإباء الضيم، وكان الإسلاميون من أمثال جرير والفرزدق قد لاحظوا الفرق الحادث بين من يمدحونهم من الخلفاء والولاة وبين سادة القبائل فى الجاهلية، فأسبغوا عليهم كثيرا من الصفات الدينية والزمنية، ونرى بشارا يقتدى بهم وخاصة فى مديحه للمهدى (٣)، وكأنه حتى فى هذا الجانب لا يزال موصولا بالتراث الفنى القديم. وكان طبيعيّا لذلك أن يستمد جمهور معانيه فى المديح من القدماء، وهذا نفسه يلاحظ على مقدماته الطللية والغزلية، وبذلك فتح الأبواب واسعة أمام النقاد كى يبحثوا فى سرقاته منهم، كما فتحها أمام الشعراء لكى يحتذوا على صيعه. على أنه ينبغى أن نعود فنقرر أنه كان يحاول النفوذ من خلال هذا الصنيع إلى معان وصور جديدة يستلهم فيها حسه المرهف وعقله الدقيق وذوقه الحضارى المترف حتى حين يعمد إلى المحاكاة المسرفة للقدماء على نحو ما يلقانا فى أرجوزته: «يا طلل الحىّ بذات الصّمد». وحرى بنا أن نقف


(١) الديوان ٢/ ٢١٩ والأغانى ٣/ ١٧٤ وراجع فى أراجيز له أخرى الديوان ١/ ١٣٤، ١/ ١٤٠.
(٢) الأغانى ٣/ ١٩٠ وما بعدها.
(٣) انظر الديوان ٣/ ٣٢١، ٢/ ٢٧٧ وما بعدها، ٢/ ٢٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>