للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى طليعة من روّجوا له بحكم خصب ملكاته الشعرية. وقد مضى يكثر من وصف مجالس اللهو والغناء، وله مقطوعات بديعة يصور فيها غناء بعض القيان ومدى ما كنّ يخلبن به الألباب من غنائهن وضربهن على آلات الطرب (١)، وقد تغنى طويلا بالخمر وكئوسها ودنانها وندمانها وسقاتها من مثل قوله (٢):

ربّ كأس كالسّلسبيل تعلّل‍ ... ت بها والعيون عنى نيام

حبست للشّراة فى بيت رأس ... عتّقت عانسا عليها الختام (٣)

نفحت نفحة فهزّت نديمى ... بنسيم وانشقّ عنها الزّكام

وكأنّ المعلول منها إذارا ... ح شج فى لسانه برسام (٤)

صدمته الشّمول حتى بعيني‍ ... هـ انكسار وفى المفاصل خام (٥)

وهو باقى الأطراف حيّت به الكأ ... س وماتت أوصاله والكلام (٦)

وهو يصور صفاءها وقدمها وشذاها الذى يشق الزكام، وتأثيرها الجسدى فى الشارب وما تصيبه به من هذيان ومن فتور فى العيون وارتخاء فى المفاصل، ثم ما تنزل به من هدوء وسكون وصمت حتى لكأنما ماتت أوصاله ومات الكلام. وهو يتصل فى وصفه للخمر بتراثها القديم عند الأعشى وأضرابه وما أضيف إليه عند الوليد بن يزيد ونظرائه، فى الوقت نفسه يعدّ مقدمة للماجنين من حوله ومن بعده لكى يزيدوا فى الطنبور ما شاءوا من أنغام وألحان.

ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور كيف أن بشارا تمسك بالتراث الفنى وأصوله التقليدية وكيف مضى ينميه ويلائم بينه وبين حياته العقلية الخصبة وما عاش فيه من حضارة مادية حفّ بها المجون. وقد حاول، كما مر بنا فى غير هذا الموضع، أن يجدد فى شكل القصيدة، فنظم فى الرباعيات وفى المزدوج والمسمطات، غير أنه ظل محتفظا للغة الشعر بأساليبها الجزلة الرصينة، وقد يرقّ ويلين، ولكن دون


(١) أغانى ٣/ ١٦٥.
(٢) أغانى ٣/ ٢٣٥.
(٣) بيت رأس: من قرى فلسطين وتشتهر بالكروم والخمر.
(٤) البرسام: مرض يصحبه هذيان، وهو يريد الهذيان نفسه.
(٥) الشمول: الخمر. خام هنا: ارتخاه، وأصله طاقات الزرع الغضة.
(٦) حيت: حييت.

<<  <  ج: ص:  >  >>