للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفارسية، ثم هم لم يوظّفوا فى الدواوين العربية ولم يعملوا فيها كتّابا يكتبون الرسائل السياسية الرسمية، على نحو ما وظّف ابن المقفع. ولم يكن كاتبا فحسب بل كان أيضا يحسن صوغ الشعر العربى، وقد أجمع معاصروه على أنه كان آية فى البلاغة، وجعلوه على رأس البلغاء العشرة الذين سمّوهم فى هذا العصر (١)، وبلغ من إعجابهم به أنهم كانوا يكثرون من أسئلته عن البلاغة، على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، ونفس الجاحظ يقول فى بعض رسائله إن الكتاب الناشئين كانوا يتدارسون آثاره ليحذقوا البيان وليلقحوا عقولهم وألسنتهم بخير لقاح (٢).

ولم يكن ابن المقفع بليغا فحسب، بل كان أكبر بلغاء عصره، إذ استطاع أن يملأ أوانى العربية بمادة أجنبية غزيرة، دون أن يحدث فيها انحرافا من شأنه أن يجرّ ضربا من الازدواج اللغوى، إذ من المعروف أن لكل لغة صياغتها وأنماطها الخاصة فى التعبير، ولها أيضا صورها وأخيلتها التى قد تستعصى على الأداء فى لغة أخرى. وشئ من ذلك لا يصادفنا عند ابن المقفع، فقد استطاع أن يحتفظ للعربية فى ترجماته بمقوماتها الأصيلة، كما استطاع الملاءمة بين الأخيلة والصور الفارسية وذوق اللغة العربية، بحيث لا نحسّ عنده نبوّا ولا انحرافا، مما يشهد له بقدرته البيانية وأنه استطاع أن يحوز لنفسه السليقة العربية التامة بكل شاراتها وسماتها اللغوية.

والحق أنه كان آية فى البلاغة وجزالة القول ورصانته مع سهولته، وقد نصح مرة لبعض الأدباء، فقال له: «إياك والتتبع لوحشىّ الكلام طمعا فى نيل البلاغة فإن ذلك هو العىّ الأكبر». ولعل خير ما يصف بلاغته إجابته لسائل سأله عن البلاغة فقال: «هى التى إذا سمعها الجاهل ظنّ أنه يحسن مثلها».

والمسألة لا تقف عند وصفه بالبلاغة، فهى أوسع من ذلك وأبعد مدى، إذ كان من أوائل من ثبّتوا الأسلوب الكتابىّ العباسىّ المولّد، وهو أسلوب يقوم على الوضوح وأن تشفّ الألفاظ عن معانيها وأن تخلو من كل غريب وحشىّ ومبتذل


(١) الفهرست ص ١٨٢.
(٢) ثلاث رسائل للجاحظ (طبعة فنكل) ص ٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>