للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عامى. ولم يقصر ابن المقفع هذا الأسلوب على ما ينشئه من رسائل ديوانية أو إخوانية، بل عممه فى ترجماته، وبذلك وطّده أقوى توطيد ومكّن له أوسع تمكين، إذ جعله أسلوب النثر العام فى العصر مهما اختلفت فنونه. وكانت غزارة معانيه سببا فى أن يتميز هذا الأسلوب عنده بالإيجاز والاقتصاد الشديد، فالألفاظ بقدر المعانى لا تنقص ولا تزيد، والمعانى تؤدّى أداء فصيحا رصينا، دون قصد إلى الجمال التعبيرى من سجع أو ترادف صوتى. ويظهر أنه على الرغم من زندقته كان يبهره جمال القرآن وصياغاته فاستعار من ألفاظه وأساليبه كثيرا فى جوانب كتاباته حتى فى القصص الحيوانى قصص كليلة ودمنة، وطبيعى أن تبلغ هذه الاستعارة عنده الغاية فى تحميداته التى كان يفتتح بها الرسائل السياسية الرسمية والتى كان يعظّم فيها الدين الحنيف على نحو ما نرى فى هذا التحميد (١):

«الحمد لله ذى العظمة القاهرة، والآلاء الظاهرة، الذى لا يعجزه شئ ولا يمتنع منه، ولا يدفع قضاؤه ولا أمره: ({إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).} والحمد لله الذى خلق الخلق بعلمه، ودبّر الأمور بحكمه، وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه بقدرة منه عليها وملكة (٢) منه لها {(لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)} ولا شريك له فى شئ من الأمور {(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ)} وما كان للناس الخيرة فى شئ من أمورهم ({سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ)}. والحمد لله الذى جعل صفوة ما اختار من الأمور دينه الذى ارتضى لنفسه ولمن أراد كرامته من عباده، فقام به ملائكته المقرّبون، يعظّمون جلاله ويقدسون أسماءه ويذكرون آلاءه لا يستحسرون (٣) عن عبادته ولا يستكبرون ({يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)} وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه فى أرضه يطيعون أمره ويذبّون عن محارمه، ويصدّقون بوعده، ويوفون بعهده ويأخذون بحقه ويجاهدون عدوّه. وكان لهم عند ما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاجه (٤) حجّتهم وإعزازه دينهم وإظهاره حقهم وتمكينه لهم، وكان لعدوه وعدوهم عند ما أوعدهم من خزيه وإحلاله بأسه، وانتقامه منهم وغضبه عليهم. مضى على ذلك أمره ونفذ فيه قضاؤه


(١) جمهرة رسائل العرب ٣/ ٥٣.
(٢) ملكة: ملك.
(٣) يستحسر بالشئ: يعيا به.
(٤) إفلاجه: نصره.

<<  <  ج: ص:  >  >>