للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما يجرى فيه من حيل وأفكار دقيقة نادرة. وفى أسماء كتب سهل التى ذكرناها آنفا ما يدل على أنه أجرى بعض قصصه على ألسنة الإنسان مباشرة على نحو ما يدل على ذلك اسم كتابه «المخزومى والهذلية» واسم كتابه الثانى: «الوامق والعذراء».

واحتفظ الجاحظ فى أول كتابه البخلاء برسالة طويلة له يحتج فيها للبخل وينصره على الكرم، ومرّ بنا ما يقال من أنه كتبها شعوبية على العرب، إذ حاول فيها أن يهدم فضيلة الكرم العربية هدما. ويذكر الرواة أنه قدمها إلى الحسن ابن سهل يرجو مكافأته عليها، فكتب له على ظهرها: «وصلت رسالتك ووقفنا على نصيحتك وقد جعلنا المكافأة عنها القبول منك والتصديق لك». ونراه فى فاتحتها يتوجّه بالحديث فيها إلى بنى عمه، وظن القدماء أنه يريد بنى عمه الحقيقيين من آل راهبون، وأغلب الظن أنه يقصد العرب. وقد مضى يذكر أنه إنما يقصد هدايتهم وأنه إن أخطأه سبيل إرشادهم فلن يخطئه سبيل حسن النية، ثم أخذ يورد دفاعه عن البخل ومحاسنه، مستعينا بقدرته على الجدل وصنع الحجج المنطقية وبما حفظ من بعض أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وهم إنما كانوا يريدون الاقتصاد وعدم الشطط فى الإسراف، أما البخل فلا يرضاه التابعون ولا الصحابة فضلا عن الرسول الكريم الذى حضّ على البذل والإيثار والسخاء بكل ما فى اليد، كما حضّ القرآن الكريم لا على الصدقات فحسب، بلى على الاتساع بالإطعام وتقديم الماعون، وصوّر المثل الأعلى فى ذلك فقال جلّ شأنه: ({وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)}. وكل ذلك كان يعرفه سهل معرفة دقيقة، غير أنه كان يريد الدفاع عن البخل، فاختار من أقوال الرسول صلى الله عليه والصحابة والتابعين ما قد يشهد له، وهو إنما يشهد على زهادتهم فى الدنيا وصغر متاعها فى أعينهم حتى بعد إقبالها عليهم، وفرق بين الزهد والبخل والحرص والشح، ونحن نسوق قطعة من هذه الرسالة، لنطلع من جهة على قدرته فى الجدل والحجاج، ومن جهة ثانية على قدرته البيانية، يقول:

«وعبتمونى حين ختمت على سدّ (١) عظيم وفيه شئ ثمين من فاكهة نفيسة


(١) السد: السلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>