للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الطلب، وأقبح ما يكون به الكسب، فعبتمونى بذلك وقد قال عمرو بن العاص:

اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدا. . وعبتمونى حين زعمت أنى أقدّم المال على العلم، لأن المال به يقاد العلم، وبه تقوم النفوس قبل أن تعرف فضل العلم، فهو أصل والأصل أحق بالتفضيل من الفرع، وأنى قلت: إن كنا نستبين الأمور بالنفوس فإنا بالكفاية نستبين وبالخلة (١) نعمى (٢).

وقلتم: كيف تقول هذا وقد قيل لرئيس الحكماء ومقدّم الأدباء: العلماء أفضل أم الأغنياء؟ قال: بل العلماء، قيل: فما بال العلماء يأتون باب الأغنياء أكثر مما يأتى الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: لمعرفة العلماء بفضل الغنى ولجهل الأغنياء بفضل العلم. فقلت: حالهما هى الفاصلة بينهما، وكيف يستوى شئ ترى حاجة الجميع إليه وشئ يغنى بعضهم فيه عن بعض. . وعبتمونى حين قلت إن فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون فى الدار، إن احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدّة. . وقال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى فلو لم يكن لك فيه إلا أنه عزّ فى قلبك وذلّ فى قلب عدوك لكان الحظ فيه جسيما والنفع فيه عظيما. ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب الأهواء».

وبمثل هذه الحجج دافع سهل عن البخل، وهى حجج يستمد فيها من المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وعن حكماء الأمم القديمة وخاصة حكماء أمته الفارسية، مما يدل على اتساع ثقافته. وليس هذا ما يلفتنا وحده فى تلك الحجج فإنه يلفتنا فيها أيضا قدرته المنطقية التى تتضح فى إيراد الأقسام المتقابلة إيرادا مستقصيا، كما تتضح فى استخدام الأقيسة وتصحيح الأدلة استخداما دقيقا، وفى تضاعيف ذلك تتضح غزارة فكره وكأنه يستمد من معين لا ينضب، كما يتضح إلحاحه على المعانى حتى لكأنه يريد أن يحصرها ويحيط بكل دقائقها، وتأمل فى رده على من يستحثّ الهرم على إنفاق ماله على الناس وفى الملذات، وفى الوجوه التى وضعها تحت عينه مخوّفا له ومحذرا من تضييع ماله، فستراه يجمع هذه الوجوه فى استقصاء وتفصيل دقيق، فهو قد يعمّر، وقد يرزق الولد، وقد


(١) الخلة: الحاجة والفقر.
(٢) نعمى: نضل.

<<  <  ج: ص:  >  >>