للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هناك مادح للرسول صلى الله عليه وسلم. إلا ويسعى إلى زيارة ضريحه العطر وإنشاده مديحه، غير من كان يقيم فى البلدتين المقدستين من أهلهما النساك. وقد ذكرنا فى غير هذا الموضع كيف أن كبار المتصوفة المتفلسفة منذ الحلاج كانوا ينزلون فى مكة ويجاورون فيها، وقلنا إنه نزلها ابن عربى وجاور فيها سنوات، وفيها ألف الفتوحات المكية وديوانه الصوفى «ترجمان الأشواق» وفيه يقول:

مرضى من مريضة الأجفان ... علّلانى بذكرها علّلانى

هفت الورق بالرياض وناحت ... شجو هذا الحمام مما شجانى (١)

وشاع الديوان فى مكة والمدينة وفى اليمن وتناقله الحجاج. ومن متفلسفة المتصوفة وشعرائهم الذين جاوروا فى مكة ابن سبعين، أقام بها سنوات طويلة حتى توفى سنة ٦٦٩ وكان يقول بالاتحاد والحلول، ومن شعره (٢):

من كان يبصر شأن الله فى الصّور ... فإنه شاخص فى أكمل الصّور

بل شأنه كونه بل كونه كنهه ... فإنه جملة من بعضها وطرى

ووراء ابن سبعين وابن عربى والحلاج كان ينزل بمكة والمدينة المتصوفون السنيون وفى مقدمتهم القشيرى الذى لمّ شعث الفرقة بين الصوفية وأهل السنة كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع. ونزلها الغزالى وشهاب الدين السهروردىّ العراقى وأقام بها ابن الفارض خمسة عشر عاما نظم فيها كثيرا من أشعاره الصوفية الوجدانية من مثل قوله:

هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به وله عقل

وعش خاليا فالحبّ راحته عنا ... وأوّله سقم وآخره قتل

وإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به ... شهيدا وإلا فالغرام له أهل

ولم يبق مادح للرسول صلى الله عليه وسلم إلا زار المدينة، لتتأرج روحه بعطر قبره، وقد زارها البوصيرى أكبر مداح الرسول، وفيه نظم همزيته فى نحو أربعمائة وخمسين بيتا، وسماها «أم القرى فى مدح خير الورى» وكذلك ميمينه المشهورة باسم البردة، وقد تناقلها الناس فى مشارق العالم الإسلامى ومغاربه إعجابا وافتتانا. ومديح الرسول قديم منذ ابن دريد فى مطالع القرن الرابع الهجرى. ولكن لم تنل قصيدة فى مديح الرسول حظوة هاتين القصيدتين.

وبجانب المدائح النبوية وأشعار التصوف المهاجرة إلى المدينتين المقدستين هاجرت إليهما أشعار زهد كثيرة، كان يرددها النساك والعباد والمجاورون بمكة والمدينة، على نحو ما نجد فى


(١) هفت الورق: خفق الحمام بأجنحته.
(٢) العقد الثمين ٥/ ٣٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>