للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ديوان الزمخشرى الذى جاور فى مكة طويلا، حتى لقّب «جار الله». وكان هؤلاء المجاورن الكثيرون يضمنون الزهديات مصنفاتهم التى يؤلفونها فى مكة أو المدينة، ومن يقرأ تفسير الزمخشرى الذى ألف بمكة والذى سماه الكشاف يجده عند تفسير الآية الكريمة: {إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها} (١) ينشد توسلا لطيفا لشاعر على هذه الصورة:

يا من يرى مدّ البعوض جناحها ... فى ظلمة الليل البهيم الأليل (٢)

ويرى عروق نياطها فى نحرها ... والمخّ فى تلك العظام النّحّل

اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه فى الزمان الأوّل

ومن المجاورين بالحرمين الشريفين ابن ظفر (٣) المولود بصقلية فى شعبان سنة ٤٩٧ رحل من بلده يافعا فى طلب العلم إلى مكة ونهل من حلقات علمائها. وارتحل إلى مصر ثم إلى المهدية بتونس، وعاد إلى موطنه صقلية، وبها ألف لحاكمها فى سنة ٥٥٤ كتابه «سلوان المطاع فى عدوان الأتباع» وهو كتاب نفيس ترجمه المستشرقون إلى الإنجليزية والإيطالية، ويمتلئ بأشعاره، وهى تصور زهده وتقشفه مع براعة فى نسج الشعر ونظمه من مثل قوله (٤):

يا متعبا كدّه الحر ... ص فى الفضول وكاده

لو حزت ما حاز كسرى ... وما حوى وأفاده

ما كنت إلا معنّى ... ومغرما بالزّيادة

لم يصف فى الأرض عيش ... إلا لأهل الزّهاده

ولم يكن يقول ذلك عظة أو تمثلا ولكن كان يقوله عن اقتناع، فقد كان أحد من رفضوا الدنيا وعاشوا فقراء زاهدين، تكفيهم الكسرة. وكان يتحول واعظا كلما نزل بلدة، ونزل بلادا كثيرة، نزل مصر وبلاد المغرب وعاد إلى المشرق، فألم ببغداد ودمشق ثم نزل حماة واستوطنها إلى وفاته سنة ٥٦٧ ومن زهدياته (٥):

راقك الزهد إنما الزّهد رفض ... لفضول تلهى وتطغى وتردى (٦)

مرحبا بالكفاف عيشا هنيئا ... ثم لا مرحبا بحرص وكدّ

لا يزال الحريص يستامه الحر ... ص ينصب من الشقاء ونكد (٧)


(١) سورة البقرة: الآية رقم ٢٦.
(٢) الأليل: شديد السواد.
(٣) انظر فى ابن ظفر الخريدة (قسم الشام) ٣/ ٤٩ وابن خلكان ٤/ ٣٩٥ ومعجم الأدباء ١٩/ ٤٨ والوافى ١/ ١٤١ والعقد الثمين ٢/ ٣٤٤.
(٤) الخريدة (قسم الشام) ٣/ ٥٥.
(٥) نفس المصدر ٣/ ٥٦.
(٦) تردى: تهلك.
(٧) يستامه: يذاء ويصرفه.

<<  <  ج: ص:  >  >>