للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهل من أحد يشرب نفسه، وإنه لقياس غريب، بل لا ينقاس. وقبس منه الفكرة ابن هانئ الصغير المتوفى لأواخر العهد الفاطمى، إذ يقول فى خمرية له (١):

ومهفهف أبدى الشباب بخدّه ... صدغا فرقرق ورده فى آسه (٢)

تتلهّب الصّهباء فى وجناته ... فتسير من عينيه فى جلاّسه

حتى إذا ملأ الزجاجة خدّه ... نورا وفاح الخمر من أنفاسه

خال الزجاجة أفعمت بمدامة ... فدنا ليشرب نوره من كاسه

وهو يقول إن صدغ الشعر أو خصلته تمتزج بخده كما يمتزج الآس الأبيض بالورد، ويتسع به الخيال فيقول إن الخمر تتلهب فى خده فتلهب السحر فى عينيه فيسير منهما إلى جلاسه، حتى إذا ملأ خده الكأس نورا ظنها ملئت خمرا، واستحال ظنه يقينا ودنا من الكأس يريد أن يحتسيها.

ولابن سناء الملك خمريات مرحة فى لغة سهلة سلسة من مثل قوله (٣):

أين كئوسى وأين أكوابى ... فهى وحقّ المجون أولى بى

يبدو عليها الحباب إن مزجت ... مثل عيون بغير أهداب

تأتى ويأتى السرور يتبعها ... كأنه واقف على الباب

أسجد شكرا لها إذا طلعت ... كأن كأسى لدىّ محرابى

وهو يصور فى خمرياته مرحا وابتهاجا، ومرّ بنا أنه كان يعيش فى بلهنية ونعيم، وقلما كان يعترضه فى حباته شوك يؤذيه، فهى ورد عطر، وهى ترف، وكل وسائل الترف مهيأة له، لذلك لا نعجب إذا رأيناه مرحا فى خمرياته.

وكانت حياة ابن النبيه هنيئة لينة ناعمة مثله، مما جعل خمرياته تطفح بالمرح والابتهاج والشعور بأن كل ما فى الكون والطبيعة رائق شائق، ومن طريف خمرياته قوله (٤):

باكر صبوحك أهنا العيش باكره ... فقد ترنّم فوق الأيك طائره (٥)

واللّيل تجرى الدرارى فى مجرّته ... كالّروض تطفو على نهر أزاهره (٦)


(١) الخريدة (قسم مصر) ١/ ٢٧٠.
(٢) رقرق: مزج.
(٣) الديوان ص ٣٤
(٤) الديوان ص ٩١
(٥) الأيك: الشجر الملتف.
(٦) الدرارى: الكواكب المتلألئة. المجرة: مجموعة من النجوم تبدو كوشاح أبيض.

<<  <  ج: ص:  >  >>