للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كان نقيب الأشراف يشربها حتى الثمالة فقد حاكاه غير شاعر من مثل سعيد المنبوز باسم قاضى البقر وصالح بن مؤنس ومحمد بن عاصم وابن أبى العصام، وكان الأخيران يلمان بالأديرة، وكان ثانيهما خاصة يتهتك فى شربها ويجترئ على الدين فى غير استحياء حتى ليقول فى وصف مجلس آثم من مجالسه (١):

مجلس لا يرى الإله به غي‍ ... ر مصلّ بلا وضوء وطهر

سجّد للكئوس من دون تسبي‍ ... ح سوى نعمة لعود وزمر

فهو يعيش معيشة مزرية ماجنة أشد ما يكون المجون مستهترة أسوأ ما يكون الاستهتار.

ونلتقى بتميم بن المعز، ومر بنا أن أباه حرمه من ولاية العهد لا نحرافه وسوء سلوكه وما سمعه عن مجونه، وله فى الخمر أشعار كثيرة، وقد يسوق الحديث فيها منفردة، وقد يجمع بينها وبين جمال الطبيعة أو بينها وبين بعض صواحبه، ومن قوله فيها وفى الورد (٢):

وورد أعارته الغوانى خدودها ... وأهدى إليه المسك أنفاس مفتوقه

كأن النّدى فيه مدامع عاشق ... أريقت غداة البين فى خدّ معشوقه

أدرنا كئوس الرّاح فى جنباته ... على حسن مرآه ورقّة توريقه

وواضح أنه يحسن التصوير، فالورد خدود الغوانى وهو عبق بشذا المسك، وكأن الندى فيه دموع عاشق تناثرت على خد معشوقه يوم الفراق، وهو يشرب على حسنه ورقة أوراقه. ومن طريف ماله فى المزج بين الخمر وصاحبته قوله (٣):

ناولتها مثل خدّيها مشعشعة ... صرفا كأن سناها ضوء مقباس (٤)

فقبلتها وقالت وهى ضاحكة ... وكيف تسقى خدود الناس للناس

إذا تناولت خدّى كنت نائلة ... نفسى وهذا لعمرى غير منقاس

والفكرة بديعة، فالخمر تشبه خديها بلونهما ووهجهما، وتناولت كأسها منه وقبلته مازحة قائلة له: كيف تسقى خدود الناس للناس؟ وكأنه قدّم لها خدودها لتشريها، بل كأنه قدم لها نفسها،


(١) المغرب (قسم الفسطاط) ص ٢٧٣.
(٢) الديوان ص ٢٩٨.
(٣) الديوان ص ٢٤٩.
(٤) المقباس: شعلة النار.

<<  <  ج: ص:  >  >>