للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على بن إسماعيل الفهرى القرشى الأشبونى، وفيه يقول ابن عبد الملك المراكشى، قرأ العلم بقرطبة ودرس على طائفة من علمائها وأكثر من حفظ الآداب والأشعار، وكان من الأدباء النبلاء والشعراء المحسنين سمح القريحة، مشاركا فى الحديث والفقه، أمضى فى ذلك صدرا من عمره، ثم مال إلى النسك والتقشف ونظم فى معانيهما أشعارا رائقة وضروبا من الحكم تناقلها الناس وحفظوها عنه. واتخذ لنفسه رابطة (١) فى رقعة من بستان له على بحيرة شقبان عرفت برابطة الطّيطل ولزم بها العبادة والنسك إلى أن توفى. ويقول ابن بسام: إن أهل أوانه كانوا يشبهونه بأبى العتاهية فى زمانه، ويذكر إنه نظم الدرّ المفصّل فى الزهد، ومن نظمه:

إذا سدّ باب عنك من دون حاجة ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها

فإنّ جراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها (٢)

ولاتك مبذالا لعرضك واجتنب ... ركوب المعاصى يجتنبك عقابها

وهو يوصى صاحبه بأن لا ييأس أبدا، فإذا سدّ عنه باب فى الرزق فليتركه إلى باب آخر ينفتح له، وليكفه كفاف القوت فإن وعاء البطن حسبه أن يمتلئ، وما زاد عن ذلك لا يحتاجه الإنسان، وليغنه عن الأمور السيئة أن يجتنبها، حتى لا يعرّض نفسه لعقاب، وليصن عرضه وشرفه ويجتنب المعاصى حتى لا تصيبه أى عقوبة. ويقول:

الموت يرعاك كلّ حين ... فكيف لم يجفك المهاد

ما حال سفر بغير زاد ... والأرض قفر ولا مراد (٣)

فابن بها للتّقى بروجا ... تأمن إذا روّع العباد

وهو يقول إن جرس الموت يدق فى كل حين، فكيف لا تحيى الليل بالعبادة، وإنك لراحل مسافر إلى ربك، وهل يستطيع مسافر أن يسافر بغير مئونة وزاد، إنه يكون أشبه بمن يسافر فى صحراء مجدبة ولا مرعى ولا قوت، فاتخذ التقى والورع عدّتك تأمن حين يعصف بك الموت الذى لا بد منه للعباد. وله وصف دقيق للنملة يصور فيها خصرها الضامر، وكأنما آخرها قطرة من قطران أو حبر أسود، تحمل قوتها مدخرة له مهتدية فى ظلمة الليل إلى خرق كثقب الإبرة، لا يسمع لها أحد حركة، مسبّحة ربها، وسبحانه العالم وحده بتسبيحها.


(١) الرابطة: بيت للعبادة.
(٢) الجراب: وعاء الزاد.
(٣) مراد بفتح الميم: مرعى.

<<  <  ج: ص:  >  >>