للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالمغنين والمغنيات، ويعدّ أبو الفرج منهم فى أغانيه عشرات (١)، ويقصّ علينا أخبارا كثيرة عن هذه الدار، نعرف منها ما أصاب الغناء فى المدينة من رقى وازدهار، إذ كانوا يتغنون الغناء المصحوب بالجوقات الكبيرة (٢) والآخر المصحوب بالرقص والضرب على الآلات الموسيقية الكثيرة (٣). وكانت جميلة أحيانا تقوم باستعراض كبير يضم أشهر المغنين والمغنيات لا فى المدينة فقط، بل أيضا فى مكة (٤)، ويقال إنها أرادت الحج فخرجت فى مهرجان ضخم من المغنين والمغنيات ضمّ نحو عشرين مغنيا وخمسين قينة (٥).

وعلى هذا النحو عاشت المدينة فى هذا العصر لفن الغناء تنميّه وترقيه، ورقيّه إنما هو رمز لما أصاب مجتمعها من تحول وتطور وتحضر، ولما أخذ به من أسباب الرّفه والنعيم. وكان يلتقى فى هذا المجتمع كثير من الطفيليين وأصحاب الفكاهة والتندير، واشتهر من بينهم أشعب، وكان ماهرا فى إضحاك معاصريه لابنكته ونوادره فحسب، بل أيضا بإشاراته وحركاته. وتطفح كتب الأدب بدعاباته وفكاهاته (٦).

ولمع فى هذا المجتمع كثيرات من النساء قدن المرح فيه والظّرف وعملن على تهذيب الأذواق، نذكر من بينهن السيدة سكينة بنت الحسين، وقد ترجم لها أبو الفرج فى أغانيه ترجمة (٧)، صور فيها جمالها وبهاءها ووقارها وأخذها بأسباب الزينة حتى إنها عرفت بتصفيف لجمّة شعرها كانت النساء يقلّدنها فيه، بل كان من الرجال من يحاكيها فى جمّتها. وكانت ظريفة مزاحة، وكثيرا ما كان يختلف إليها أشعب لإضحاكها. وكانت تفسح فى مجالسها للرجال وللمغنين والمغنيات وللشعراء، وكثيرا ما كانت تفاضل بينهم.

نحن إذن بإزاء مجتمع متحضر اكتملت له كل الأسباب كى يمرح أهله مرحا بريئا، مرحا قوامه الغناء والدعابة والذوق الراقى المهذب. ولعلنا الآن نفهم


(١) أغانى ٨/ ١٨٦ وما بعدها.
(٢) أغانى ٨/ ٢١٨، ٨/ ٢٢٧.
(٣) أغانى ٨/ ٢٢٦.
(٤) أغانى ٨/ ١٨٨، ٨/ ٢١١.
(٥) أغانى ٨/ ٢٠٩.
(٦) انظر ترجمته فى الأغانى (طبعة الساسى) ١٧/ ٨٣.
(٧) أغانى (طبعة الساسى) ١٤/ ١٥٧ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>