للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مظاهر الحياة والحضارة وفن الغناء الجديد وما اتصل بذلك من شيوع شعر الحب والغزل. وكانت مثلها تغرق فى ثراء واسع ورثه الشباب عن آبائهم، وقد ورثوا عنهم كثيرا، ورثوا ما كان فى حجورهم من أموال التجارة فى العصر الجاهلى، ومعروف أن قوافل مكة كانت تحل محل قناة السويس فى عصرنا، إذ كانت تنقل السّلع بين حوض المحيط الهندى وحوض البحر المتوسط، وانضافت إلى هذه الأموال أموال الفتوح الإسلامية وما فرض لأهلها من أعطيات ورواتب فى دواوين الخلافة وما قسم فيهم الأمويون دائما من أموال، وكان الحج يفئ عليهم كل سنة بما يسدّ خلّة كل محتاج.

فمكة لم تكن تقلّ فى هذا العصر ثراء عن المدينة، وهو ثراء استتبع بناء القصور المشيدة التى تختال جمالا وبهاء، وقد بنى معاوية لنفسه فيها دورا لقّبت «بالرّقط» لاختلاف ألوانها أحضر لها بنّائين من الفرس (١)، ومع ذلك كان إذا حج وقف مبهوتا إزاء بعض قصورها الأخرى (٢). ومعروف أنه اتسع فيها بناء القصور والدور اتساعا كبيرا لعهد عبد الله بن الزبير حين اتخذها مقرّا لخلافته (٣). وقد عنى كثير من الخلفاء ومن ولاتها الذين أثروا فى الفتوح باستنباط العيون فيها وغرس النخيل والأشجار فى ضواحيها (٤) من ذلك ما يروى عن سليمان بن عبد الملك من أنه أراد أن يحج فكتب إلى خالد القسرى عامله عليها أن يجرى له عينا إلى الكعبة من الماء العذب، فصنع بركة فى أصل «ثبير» بحجارة منقوشة، وأسال منها الماء إلى المسجد الحرام فى قصب من رصاص انتهى بفوارة تسكب الماء فى نافورة رخام بين الركن وزمزم (٥).

ولم تغرق مكة فى دور وقصور وعيون فحسب، بل لقد أخذت تغرق إلى آذانها فى الترف والنعيم. فإذا نفر من أهلها يأكلون ويشربون فى صحاف الذهب والفضة (٦)، ونفر يلبسون مقطعات الخزّ والسندس والديباج والحلل الموشاة


(١) أغانى ٣/ ٢٨١.
(٢) أغانى ١/ ٢١١.
(٣) الأزرقى ١/ ٣٩٢.
(٤) المعارف لابن قتيبة (طبعة جوتنجن) ص ١٦٤ والأزرقى ١/ ٤٤١ وما بعدها.
(٥) اليعقوبى (طبعة أوربا) ٢/ ٣٥١.
(٦) أغانى ٥/ ٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>