للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصّنائع. والرّؤساء أبدا يستنكفون عن الصّنائع والمهن وما يجرّ إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولّدين. وما زالوا يرون لهم حقّ القيام به فإنّه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كلّ الاحتقار. حتّى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم الشّرعيّة غريبة النّسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها وأمتهن حملتها بما يرون أنّهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عنهم [١] في الملك والسّياسة كما ذكرناه في نقل [٢] المراتب الدّينيّة. فهذا الّذي قرّرناه هو السّبب في أنّ حملة الشّريعة أو عامّتهم من العجم. وأمّا العلوم العقليّة أيضا فلم تظهر في الملّة إلّا بعد أن تميّز حملة العلم ومؤلّفوه. واستقرّ العلم كلّه صناعة فاختصّت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلّا المعرّبون من العجم شأن الصّنائع كما قلناه أوّلا. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلاميّة ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخراسان وما وراء النّهر. فلمّا خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة الّتي هي سرّ الله في حصول العلم والصّنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة واختصّ العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أمّ العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصّنائع. وبقي بعض الحضارة في ما وراء النّهر لما هناك من الحضارة بالدّولة الّتي فيها فلهم بذلك حصّة من العلوم والصّنائع لا تنكر. وقد دلّنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد وهو سعد الدّين التّفتازانيّ. وأمّا غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب ونصير الدّين الطّوسيّ كلاما يعوّل على نهايته في الإصابة.

فاعتبر ذلك وتأمّله تر عجبا في أحوال الخليقة. والله يخلق ما يشاء لا شريك له


[١] وفي نسخة أخرى: عليهم.
[٢] وفي نسخة أخرى: فصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>