للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فكان اختصار الكلام على ما ترى - بوقفهم بادئ ذي بدء في موقف الاتهام - إسراعًا بتسديد (١) سهم الحجة إلى هدفها، وتنبيهًا في الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض، وأنهم سواسية في الجرم، فعلى أيِّهم وضعت يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم؛ لأنهم لا ينفكون عن الاستنان بسنة أسلافهم، أو الرضا عن أفاعيلهم، أو الانطواء على مثل مقاصدهم.

٣ - وانظر كيف زاد هذا المعنى ترشيحًا (٢) بإخراج الجريمة الأولى وهي جريمة القتل في صيغة الفعل المضارع تصويرًا لها بصورة الأمر الواقع الآن، كأنه بذلك يعرض علينا هؤلاء القوم أنفسهم وأيديهم ملوثة بتلك الدماء الزكية.

٤ - ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح بابًا من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم، وبابًا من الإطماع لأعدائه في نُجحِ تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله.

فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ فقطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبت بها قلب حبيبه إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس. ذلك إلى ما فيها من تنبيه على أصل وضع الكلام وعلى ما صنع به من التجوز المذكور آنفًا في الإسناد وفي الصيغة.

٥ - وانظر كيف جيء بالأفعال في الجرائم التالية على صيغة الماضي بعد أن وطأ لها بهذه الكلمة: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ فاستقام التاريخ على وضعه الطبيعي حين لم تبق هناك حاجة إلى مثل التعبير الأول.

٦ - وانظر إلى الآداب العالية في عرض الجريمة الثانية وهي جريمة الشرك؛ فإنها لما كانت أغلظ من سابقتها وأشد نكرًا في العقول نبه على ذلك ألطف تنبيه بحذف أحد ركنيها، فلم يقل: اتخذتم العجل إلهًا، بل طوى هذا المفعول الثاني استبشاعًا للتصريح به في صحبة الأول، وبيانًا لما بينهما من مفارقة .. وكم في هذا الحذف من تعبير وتهويل!! فربَّ صمت هو أنطق بالحكم، وأنكى في الخصم.


(١) وهذا هو ما يسمى في المناظرة (بالتقريب) بين الدليل والمطلوب.
(٢) أي: تقوية. (عمرو)

<<  <   >  >>