للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لم يكن مَعَ ذَلِك نطق فَهُوَ الْحَيَوَان غير الْإِنْسَان، وَإِن كَانَ فَهُوَ الْإِنْسَان

والنزاع بَين الأشاعرة والمعتزلة فِي أَن لفظ الْجِسْم فِي اللُّغَة هَل يُطلق على الْمُؤلف المنقسم وَلَو فِي جِهَة وَاحِدَة؟ أَو على الْمُؤلف المنقسم فِي الْجِهَات الثَّلَاث؟ فَحَيْثُ وَقع فِي " الْمَقَاصِد " من أَن النزاع معنوي يُرَاد بِهِ الأول، وَحَيْثُ وَقع فِي " المواقف " من أَن النزاع لَفْظِي يُرَاد بِهِ الثَّانِي

فالنزاع لَفْظِي

والجسم النَّاطِق هُوَ تَمام الْمُشْتَرك بَين الْإِنْسَان وَالْملك عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَبَين الْإِنْسَان والفلك عِنْد الْحُكَمَاء، مَعَ أَن تَمام الْمُشْتَرك بَين الْحَيَوَان وَالْملك هُوَ الْجِسْم عِنْد الْمُتَكَلِّمين والجوهر عِنْد الْحُكَمَاء؛ وَبَين الْحَيَوَان والفلك هُوَ الْجِسْم اتِّفَاقًا

والجسم والجوهر فِي اللُّغَة بِمَعْنى، وَإِن كَانَ الْجِسْم أخص من الْجَوْهَر اصْطِلَاحا، لِأَنَّهُ الْمُؤلف من جوهرين أَو أَكثر، على الْخلاف فِي أقل مَا يتركب مِنْهُ الْجِسْم على مَا بَين فِي المطولات

والجوهر يصدق بِغَيْر الْمُؤلف وبالمؤلف

والفلاسفة يطلقون الْجِسْم على مَاله مَادَّة، والجوهر على مَا لَا مَادَّة لَهُ ويطلقون الْجَوْهَر أَيْضا على كل متحيز، فَيكون أَعم من الْجِسْم على الْوَجْه الثَّانِي، وبالمعنى الأول يطلقون اسْم الْجَوْهَر على الْبَارِي تَعَالَى

والجسم جَوْهَر بسيط لَا تركيب فِيهِ بِحَسب الْخَارِج أصلا، وَهَذَا عِنْد أفلاطون فَإِنَّهُ لم يقل إِلَّا بالصورة الجسمية وَأما عِنْد أرسطو فالجسم مركب من حَال وَمحل؛ فالحال هُوَ الصُّورَة، وَالْمحل هُوَ الهيولى

وَأما عِنْد جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين وَبَعض الْحُكَمَاء الْمُتَقَدِّمين فَهُوَ مركب من أَجزَاء متناهية لَا تتجزأ بِالْفِعْلِ وَلَا بالوهم، وَتسَمى تِلْكَ الْأَجْزَاء جَوَاهِر فردة [تتألف مِنْهَا الْأَجْسَام متماثلة لَا تتمايز إِلَّا بالأعراض] ، إِذْ لَو لم يتناه الْجُزْء كَانَ الْعَالم أبديا مشاركا لأحد وصفي قديم، وَهُوَ عدم الِانْتِهَاء، كَمَا أَن الْعَالم مشارك الْقَدِيم عِنْد الدهري فِي الِابْتِدَاء لعدم الدُّخُول فِي وجوده تَحت الْقُدْرَة فالتناهي يُؤَدِّي إِلَى حُدُوث الْعَالم كَمَسْأَلَة الْحَوْض الْكَبِير إِذا وَقعت نَجَاسَة فِيهِ، فعلى تناهي الْجُزْء طَاهِر، وعَلى عدم التناهي غير طَاهِر، وَلَو قلت: كَانَ فِي كل قطرات المَاء نَجَاسَة فعلى تَقْدِير ثُبُوت الْجَوْهَر الْفَرد لَا صُورَة وَلَا هيولى وَلَا مَا يتركب مِنْهُمَا، بل هُنَاكَ جسم مركب من جَوَاهِر فردة، فاستحال خلوه عَن الأكوان الَّتِي هِيَ عبارَة عَن الْحَرَكَة والسكون والاجتماع والافتراق وَهِي معَان حَادِثَة، فيترتب عَلَيْهَا أَن مَا لَا يَخْلُو عَن الأكوان الْحَادِثَة لَا يسبقها، وَمَا لَا يسْبق الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث، أَو يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا أول لَهُ من الْحَوَادِث، وَهُوَ محَال

وَاعْلَم أَن عُظَمَاء قدماء الْحُكَمَاء لما وقفُوا على حجَّة تدل على نفي الْجُزْء أذعنوا لَهَا، وحكموا بِأَن الْجِسْم يَنْقَسِم انقسامات لَا تتناهى؛ وَلما وقفُوا أَيْضا على حجَّة تدل على عدم الِاتِّصَال، وَهِي أَنه لَو كَانَ الْجِسْم مُتَّصِلا يلْزم انعدامه بكليته

<<  <   >  >>