للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبيته صنو ذاك البيت الأرفع الخطير. حقاً لهذه أعلى مراتب المجد وأسمى منازل السؤدد.

هذا الرجل الحسيب النسيب سليل صنو الأسرة الخديوية، ونتيج شعبة الأيكة المحمدية، كان المظنون من مثله أن يجري على عادة الأمراء المترفين من الخفض والدعة وينهج من اللهو والبطالة منهج ذوي النعيم والسعة، يفترش مهاد الراحة والرخاء، ويتنكب سبل النصب والعناء، أبيى له ذلك نفس قلقة طموح، وهمه شرود جموح وبصيرة نافذة تشق عن لباب الحقيقة قشور الشبهات، وتهتك عن سر الصواب حجب الأباطيل والترهات، فعلم بفضل البصر والذكاء أن المروءة هي الكد والعمل، وأن القعود والنوم من شيمة الطفل الربيب، والشيخ ذي الدبيب، والحق يقال أن العمل أشرف أمور الحياة وأنفسها وأجل مسائل الوجود وأقدسها، والمرء مهما عصي أوامر الخالق وتجانف عن سبيل الدين فله الأمل الوطيد في الهداية متى كان صادق العمل مخلص السعي، ولكن في الكسل وحده الحرمان واليأس، وحسب العمل نبلاً أنه متصل بنواميس الوجود وشرائع الطبيعة. والرغبة في إتمام العمل إذا كانت صادقة مليئة وحدها أن تقرب المرء من الحقيقة، وبالعمل يستكمل الإنسان فضائل النفس ومكارم الأخلاق فيه تقتلع الأصول الخبيثة، وتصطلم الجراثيم اللئيمة، وتزرع مكانها الأغراس الطيبة، والأشجار الكريمة، وتشاد القرى العامرة والمدن العظيمة، بل بالعمل يصبح المرء نفسه بنياناً محكماً وبستاناً نضيراً بعد إذ هو شطره قفرة مجدبة. وشطره دمة معشبة. ألم تر إلى العمل حتى الأحقر الأخس من أنواعه كيف أنه ير شوارد الضمير ويؤل نوافر النفس ساعة يشرع فيه. أنت تعلم أن العامل الحقير ليس من بلايا الهم والأسف والخوف والرجاء والشك والندم والحق والغضب حتى اليأس. شأنه في ذلك شأن سائر البشر. غير أنه لا يكاد ينكمش في عمله حتى تنقمع شرور هذه الآفات فترتد مقهورة إلى زواياها. وتلوذ مخسورة بمكامنها وخفاياها. ويخلص العامل المسكين من أسارها وترى الرجل قد عاد رجلاً. وتراه تتوهج في صحيفة وجهه وفي سائره نار العمل المباركة مصفية سبيكته من شوب كل عاب وخبث كل منقصة، فطوبى لمن وفق من العمل إلى ما أعدله. فلقد ظفر والله بنهاية الأرب وغاية المنى. وأي نعمة أجزل من أن يكون للمرء عمل في الكون ومقصد في الحياة يسمو إليه ويؤمه. وما أجل العمل أنه لكا النهر المتدفق الحر الانطلاق يحترق أو حال الحياة ومستنقعاتها بقوة الجد