للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وسعيه. وعند الصباح يحمد القوم السرى. فلا غرو أن كان الوزير بعد كل هذا شديد الحرص على استقلاله بالرأي وانفراده بالإدارة. وما ذلك بمستغرب من الكفؤ الشديد الثقة بنفسه. الجليل الروح. الكبير العقل. فلما كان في عهد ولايته بعض الأقاليم تسلط على المدير بين مفتشي الداخلية من الإنكليز فلم يبق من المديرين إلا من رضخ لهذه السلطة الجديدة إلا عدلي باشا فإنه عرف به عن ذلك سمو همته وعلو روحه. واحترامه نفسه. فنفي عن ساحتيه كل سلطة طارئة وتداخل أجنبي وانفرد بالحكم تفرد القمر البدر في مملكة السماء. وتوحد الأسد الغضنفر في العربة العصماء والأجدل الطموح في رأس القمة الشماء. كل ذلك فعله عطوفة الوزير في سكينة وصمت. وكذلك قضي الله أن أعظم الأمور وأجل الشؤون إنما تبلغ بالسكون. وإن قصوى الغايات وعليا الدرجات إنما تنال في هدوء وصمت. ومصداق ذلك أنك إذا نظرت في التاريخ وجدت أن أبرك العصور وأدر الأزمان هي التي تمر في أمن وسلام وتنقضي في سكون وصمت. هذه هي الأزمان التي نجم في غضونها ثروة البلاد وتتوفر الخبرات والبركات وتبني فيها القوة الكامنة. وتشاد فيها أركان الدولة. أما أوقات الثورات والحروب تلك الصائحة بأفواه المدافع. الضاجة بزماجر الملاحم والوقائع. فهذه أوقات هدم وتقويض. وأزمان تخريب وتبديد. لذلك قال أحد ظرفاء الفلاسفة وبالغ في قول مونتسكيو طوبى لأمة سجلات تاريخها مملة فقال الفيلسو الفكه طوبى لأمة سجلات تاريخها خالية قوله مملة أي ليس فيها أوصاف حروف ووقائع وقصص وفتن وثورات مما يلذ القراء وبلى السامعين. بل فيها من الحوادث والمسائل ما يجري عادة في غير أوقات الحروب والفتن. ثم بالغ الآخر فقال طوبى لأمة لا تؤثر عنها حوادث قط فصحف تاريخها خالية بيضاء.

ألم تر إلى الدوحة العادية كيف أنها تحيا وتنمو في الغابة ألف عام لا يسمع لها حس ولا جرس. أجل إنه لا يسمع صوتها إلا مرة واحدة. أتعلم متى؟ حينما يجيئها الخطاب بفأسه. حينئذ تعلن الدوحة حياتها ومماتها مما يصرخه تدوى لها أرجاء الغاب. وانظر إلى بذرة الشجرة العظيمة تلقيها الطبيعة من حجر الريح الفضفاضة في بطن الثرى! من كان حاضر ساعة الغرس ومن كان حاضر ساعة الإيراق وساعة الأزهار والأثمار، ومن حينما ليست الشجرة حلي نورها وفاكهتها قام بدق البشائر وهتاف الفرح والسرور لا أحد. كلا، ولا