للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المتفوق في صناعة المفتن فيها هو خير من شكسبير أو جيت وأعظم قدراً، لأن الإنسانية أحوج إلى الأحذية منها إلى الشعر ولها أطلب ولذلك كان تور جنيف هو الذي جعل الناس في محاوراتهم وأحاديثهم يطلقون على هؤلاء الخوارج لفظة أي العدميين وإن كانوا هم ما يبرحون يحتجون على هذا الاسم ويعدونه كنية فاحشة سيئة، لأنهم يقولون إنهم لا يرون في أنفسهم إلا طلاب إصلاحات معقولة سديدة، وليسوا طلاب مزاح ومجون، وإن الفروق والغرائب التي ظهروا بها في خططهم ومناحيهم لم تنشأ إلا من إهمال الناس لمصالحهم الحقيقية، ومنافعهم الصادقة.

ظلت روسيا من وجهة التقدم المادي والأخلاقي المصلية في ميدان استباق الأمم الغربية فشعر الشبان المتعلمون بعد تلك الخيبة التي لاقتها روسيا في حرب القرم إن العهد القديم والنظام العتيق يجب أن يستبدلا بإصلاح متهور شديد، فدفعتهم حرارة الشباب، وجنون الفتوة، وبعثتهم السذاجة والبساطة وعدم الحنكة والعطل من التجربة والروية، في وجهتهم هذه بأشد من قبل تهوراً وحمية، ولما كانوا قد تعلموا مبادئ الفلسفة الإيجابية، وأخذوا بسبب منها، فقد رأوا أن روسيا ظلت باقية على حالها بعد أن تقدم الإنسانية كلها في الأطوار الدينية والأدوار الخيالية (فيما وراء الطبيعة) ولذلك فهي اليوم في أنظارهم على أبواب عصر جديد من عصور الفلسفة الإيجابية، ومن ثم ينبغي لها أن تقذف جانباً جميع الآراء الدينية والخيالية، وتنظم حياتها العملية والاجتماعية والسياسية، وتسير على هدى العلوم الطبيعية.

فكان من بين الأنظمة القديمة التي رأى هؤلاء الشبان الإغفال هدمها إذ عدوها معطلات للتقدم الحقيقي، الدين والحياة الزوجية، والامتلاك والحكومة المركزية، أما الدين فيجب عندهم أن يقوم على أنقاضه العلوم العصرية، وأما الحياة الزوجية فيجب أن تستبدل بالزواج الحر، وأما الامتلاك فبالاشتراكية، وأما الحكومة المركزية فبمجموع ولايات مستقلة.

وأمثال هذه الآراء والمذاهب لا يباح لأصحابها أن يعلنوها أو يخطبوا الناس بها، تحت حكومة مركزية يريدون نقضها، ولما كانت الصحافة الغربية قد تشبعت اليوم بروح الحريين السارية، كان من المستطاع أن تدس هذه الآراء الثورية تحت ستار الأدب