للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولكنه أمسكها بين ذراعيه ورأيته يحنو عليها كأنه يقبل جبينها فإنهما لعلى هذا إذا بموجة عظيمة تقبل حتى صافحت عطف المركب فتقدم الرجل فوضع المرأة على غارب الموجة مترفقاً كما تستودع الأم الرؤم المهد طفلها. ورأيت حلتها البيضاء ترفل على بيضاء الزبد ثم أقبل الضوء يتطامن إلى أن غابت الشفينة وراكبها الفرد في ملحود من اليتم.

فلما رأيت هذه الأحوال تغلبت على فلسفتي عواطفي ودفعني إلى العمل دافع لا يرد فنضوت عني جمودي نضو الثوب يخلعه صاحبه حين يشاء ثم يلبسه بعد ذلك متى شاء وأسرعت إلى قاربي وكان ضعيفاً كليلاً واهياً ولكن هل مانعي من الفعل الجميل والعمل الجليل ذلك؟ وهل كنت وأنا الذي طالما حن إلى الموت واشتاق القبر لأخاف الهول أو أخشى الخطر؟ فعمدت إلى قاربي فجررته إلى الماء بقوة ذي جنة ووثبت فيه وفي الدقيقة الأولى خامرني الشك أفي طاقة القارب البقاء على ذلك اللج الثائر يغلي فوقه الزبد أم ليس في طاقته؟ ولكنها لم تك إلا بضع تجذيفات حتى خرجت من تلك الغمرة قد نصف الماء قاربي وأنه برغم ذلك لطاف تخفضه لجة وترفعه لجة يعلو من هذه رأس هضبة شماء، وينزل من تلك قعر حفرة وهداء وتارة.

إذا ما انكفى في هبوة الماء خلته ... تلفع في أثناء برد محبر

وكنت أسمع من ورائي مسافة ولولة عجوزي مادج التي عدتني مع الموتى وما زلت أزجي الزورق في مهمه من الماء خوّار الجانبين منهال الجالين إلى أن حبتني إحدى الأمواج المرأة البيضاء فأشرفت فاحتملتها إلى قاربي وإنها لتكف بالماء وما كان بي إلى تزجية الزورق نحو الساحل حاجة إذ أقبلت إذ ذاك موجة فأهدته إلى البر في طفرة فوضعت القارب بمأمن ثم حملت المرأة إلى داري خلفي العجوز تزف أحسن التهنئة وأجزل الثناء.

وكنت إذا أحمل المرأة أسمع لفؤادها نبضاً فاتراً فعلمت أنها حية ثم ذكرت أنها ستكون في عيني منظراً غير محبوب (وكنت أبغض الناس طراً ولا أطيق رؤيتهم) وكانت العجوز قد أوقدت ناراً فطرحت المرأة قربها وكأني لقلة الرحمة أطرح حملاً من الحطب ولم ألتفت قط نحوها لأرى جميلة هي أم قبيحة وكيف أنا من قبض طرفه دون النساء منذ أعوام غير أني بعد ما ذهبت إلى المرقد واحتواني الفراش سمعت العجوز تتمثل وهي تدلك أوصالها قائلة:

إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان