للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكنا إذا دبّ العدوّ لسخطنا ... وراقبنا فى ظاهر لا نراقبه (١)

ركبنا له جهرا بكل مثقّف ... وأبيض تستسقى الدّماء مضاربه (٢)

وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى ... وبالشّوك والخطّىّ حمر ثعالبه (٣)

غدونا له والشمس فى خدر أمّها ... تطالعنا والطّلّ لم يجر ذائبه

بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه ... وتدرك من نجىّ الفرار مثالبه (٤)

كأن مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (٥)

بعثنا لهم موت الفجاءة إننا ... بنو الملك خفّاق علينا سبائبه (٦)

والفخر بالبلاء فى الحروب قديم، غير أن جديدا واضحا يداخل معانى هذه الأبيات، وهو يردّ من بعض الوجوه إلى مزاج بشار الفارسى الذى أدّى به إلى المبالغة ومجاوزة القصد الذى يعدّ من مميزات الطبع العربى الخالص، كما يردّ إلى محاولة الإبداع فى التصوير، ويروى أن الأصمعى وقف متعجبا إزاء البيت السابع وأنه قال: «ولد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبّه الأشياء بعضها ببعض فى شعره فيأتى بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله» (٧). وكان يعتمد فى ذلك على ذكاء حاد جعله يستغلّ ذاكرته من صور الأقدمين وأخيلتهم استغلالا فاق فيه المبصرين من حوله، مستعينا بحس دقيق. وكان مما دفعه إلى ذلك شعوره بفقده لبصره، وكأنه كان يريد أن يثبت أنه على الرغم من آفته يستطيع أن يؤلف الصور الحسية بل أن يبدع فى تأليفها. على أن من يمعن النظر فى تصاويره يلاحظ عجزه عن تمثل الدقائق التى لا ترى إلا بحاسّة البصر.

ومهما يكن فقد استطاع بشار فى مديحه أن يضيف إلى العناصر البدوية القديمة عناصر مستحدثة، وهى تبدو قليلة فى قصائده الأموية، وكلما أوغلنا معه فى العصر العباسى أحسسنا بنموها، فقد أخذ يتخفف من مشاهد الصحراء ومن


(١) دب: مشى فى استخفاء.
(٢) المثقف: الرمح المقوم. الأبيض: السيف.
(٣) يزحف: يهجم. بالحصى أى أنه كالحصى كثرة. الشوك هنا: السلاح. الخطى: الرمح. ثعالبه: أطرافه.
(٤) مثالبه: معايبه.
(٥) النقع: غبار الحرب.
(٦) سبائبه: أعلامه وراياته.
(٧) أغانى ٣/ ١٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>