للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى أنهم جميعا قتلوا على الزندقة، إذ نراه فيها جزعا أشد الجزع، ملتاعا أشدّ الالتياع على شاكلة قوله (١):

كيف يصفو لى النعيم وحيدا ... والأخلاّء فى المقابر هام (٢)

نفستهم علىّ أم المنايا ... فأنامتهم بعنف فناموا

لا يغيض انسجام عينى عليهم ... إنما غاية الحزين السّجام (٣)

والرثاء عنده-على كل حال فن طارئ، وكانت وراءه فنون أخرى عاش لها حياته، ونقصد فنون الفخر والهجاء والغزل والمجون. وقد بدأ حياته مفاخرا هاجيا، مستلهما ما شاع فى بيئة البصرة من الفخر والهجاء على لسان جرير والفرزدق ومن كان حولهما من الشعراء. وحاول أن يدخل فى معاركهما، وهو لا يزال غضّ العود، فهجا جريرا مؤملا أن يردّ عليه فيطير اسمه فى الناس، ولكن جريرا لم يحفل به لأنه كان لا يزال فتى ناشئا، ولم يردّه عدم احتفال جرير به عن الميدان، فقد أخد يصول ويجول فى هجاء الناس، ودخل فى الخصومات القبلية بين عشيرته من بنى عقيل القيسية وغيرها من العشائر. ولما تفاقم شره شكاه الناس إلى ابيه، ولكنه ازداد شرّا وإيذاء، كما مر بنا فى صدر ترجمته.

وعوامل مختلفة جعلت بشارا يسرف فى هجائه وفخره، من ذلك أنه كان يريد أن يشتهر فى هذين الفنين شهرة جرير والفرزدق، ومن ذلك أن نفسه كانت تنطوى كما أسلفنا على غير قليل من المرارة بسبب فقده لبصره، وهى مرارة زادها اضطراما فى نفسه أنه كان مولى، والموالى كانوا متخلفين فى المجتمع الأموى، وكان فقيرا بائسا، فاندلع ينفّس بفخره وهجائه عن قروحه النفسية ولكن بمن يفخر؟ أما فى العصر الأموى فقد مضى يفخر بعشيرته وأصولها من قيس، وكان مما أشعل هذا الفخر فى نفسه أن الخليفة حينئذ-وهو مروان بن محمد-كان قيسى الهوى، وأن والى العراق يزيد بن عمر بن هبيرة الفزارى كان يتعصب لأصوله من قيس تعصبا شديدا، وكان بشار يعيش فى كنفه، فمضى آنذاك يفتخر بقيس ومضر


(١) أغانى ٣/ ٢٣٦.
(٢) هام هنا: أموات.
(٣) يغيض: يجف. السجام: سيلان الدمع.

<<  <  ج: ص:  >  >>