للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبى ربيعة وأضرابه من شعراء مكة والمدينة، ومن الغزل العذرى عند جميل وأمثاله من النجديين والنازلين بوادى الحجاز. وقد مضى فى ذلك كله يستلهم الرقى العقلى الحديث والحضارة المادية التى تنفّس فيها، ونراه أحيانا يقترب اقترابا شديدا من القدماء، حتى ليتحدث عن الأطلال والرسوم فى مثل قوله (١):

لعبدة دار ما تكلّمنا الدّار ... تلوح مغانيها كما لاح أسطار (٢)

أسائل أحجارا ونؤيا مهدّما ... وكيف يجيب القول نؤى وأحجار (٣)

وما كلّمتنى دارها إذ سألتها ... وفى كبدى كالنّفط شبّت به النّار

وعند مغانى دارها لو تكلّمت ... لمكتئب بادى الصبابة أخبار

ويقترب أيضا حين يستغل عناصر النسيب والغزل القديم وما يجرى فيه من وصف لوعة الحب والسهاد الطويل، وما صوّر عشاق العرب من إذعانهم لمعشوقاتهم وما يسكبن فى قلوبهم من سحر وفتنة، وما يبعث نسيم الصبا الحلو المار بديارهن فى أنفسهم من برد وأمن وغبطة وما ينصيون حولهن من شباك التصرع والتذلل والاستعطاف، حتى ليخيّلون إليهن أنهم قتلى حبهن وسهام عيونهن، يقول من قصيدة فى معشوقته عبدة (٤):

أبيت أرمد ما لم أكتحل بكم ... وفى اكتحالى بكم شاف من الرّمد

رقّت لكم كبدى حتى لو انكم ... تهوون أن لا أريد العيش لم أرد

كأن قلبى إذا ذكراكم عرضت ... من سحرها روت أو ما روت فى عقد (٥)

ما هبّت الريح من تلقاء أرضكم ... إلا وجدت لها بردا على كبدى

يرقّ قلبى وتزدادين لى غلظا ... ما ذاك فيما أرجّى منك بالسّدد (٦)

تحرّجى بالهوى إن كنت مومنة ... بالله أن تقتلى نفسا بلا قود (٧)


(١) أغانى ٦/ ٢٤٦.
(٢) مغانيها: منازلها المهجورة. أسطار: جمع سطر، يشبه المغانى بسطور الكتابة.
(٣) النؤى: حفرة يحفرونها حول الخيمة على شكل هلال تمنع عنها سيول الأمطار.
(٤) انظر الديوان ٢/ ٣١٥ والمختار من شعر بشار ص ٨٢.
(٥) العقد: ما ينفثه الساحر بزمزمته لغرض السحر.
(٦) السدد: السداد والصواب.
(٧) القود: القصاص.

<<  <  ج: ص:  >  >>